رؤية ثقافيّة أدبيّة

ثقافة 2023/11/19
...

  محمد صابر عبيد

 إن التعدد والاختلاف، وربما التباين في فهم معاني العولمة وقوانينها وتجلياتها وانكشافاتها الفضائيّة والرؤيوية والثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصادية والحضاري عموماً، جعلها ميداناً رحباً لبناء تصورات مفهوميّة واصطلاحيّة ثرية بوسعها أن تنتج جدلا فكرياً وثقافيّاً مهماً حولها، وكل تصور من هذه التصورات له ما يبرّره استناداً إلى نظرية المعرفة التي تتبناها هذه الأطراف على عتبة التفاهم والاقتراب أم على عتبة الافتراق والابتعاد، ويسهم التوافق أو التضاد معاً في تخصيب الرؤية وتوسيع حدود المفهوم.
لم يحظَ مفهوم أو مصطلح بأهمية تداوليّة عالية على الأصعدة كافّة مثلما حظي به مفهوم (العولمة) في ظلّ تنازع الصدارة بوساطة شبكة من المفاهيم والمصطلحات والرؤيات الحداثيّة، وقد صَدرتْ مئات الكتب والدراسات والبحوث والمقالات في رصد المفهوم ومعاينته ومناقشة تجلّياته في سياقات لا حصر لها من العلوم والمعارف والثقافات، وذهبت مذاهب شتّى في تقويم قصديّته ونقد مرجعياته وأهدافه بما يتناسب مع معطيات وقيم وأفكار كلّ مذهب؛ لكنّها لا تنظر إلى ما عكسته من إجراءات اجتماعيّة وثقافيّة في أرض الواقع.
ينطوي مفهوم العولمة في هذا السياق على قدر من الانكماش المفهوميّ بشكله العام، ولا يعني الانكماش على وفق مقصديّته هنا بطبيعة الحالة اختزال العالم وتقطيره في زجاجة بل يعني الاقتصاد في تشكيل المفهوم لحظة دخوله وعي الأفراد والجماعات، بما يوفّر لها قدرة على تمثّل محرّكات الوعي البشريّ العام لفهم حركة الوجود الجديد النابع من فعاليّة المفهوم ودرجة تأثيره في المحيط، وإذا كان معنى الانكماش هنا يدلّ على رؤية نَتَجيّة من الرؤيات التي تعمل في مركز مفهوم العولمة وأحياناً في محيطها، فإنّ رؤيات أُخَر يُنتظرُ إنتاجها عند التوسّع في استخدام المفهوم واستثمار قصديّاته المضمرة.
العولمة من حيث انهماكها بإنتاج استراتيجيّة عالميّة كونيّة؛ تحكم تصوّرات الأفراد والمجتمعات ضمن منظومة عمل مشتركة وفاعلة ومنتِجة، حين يتمّ اختزال العولمة في زاوية حرجة من زوايا الأيديولوجيا الضيّقة والنظر إليها في إطار نظريّة المؤامرة وقد فقدت أهميّـتها وجدواها.
جذور العولمة على الصعيد الاصطلاحيّ ترتبط مفهوميّاً بالفكرة المفتاحيّة للفظ وهي تشير إلى شبكة من المفاهيم والمصطلحات المجاورة السابقة عليها أو اللاحقة لها، فلحظة الأمميّ التاريخيّة تختلف وتتباين مع لحظة العولمة
التاريخيّة.
بمعنى أنّه مستلّ من لفظ الأمميّ الذي هيمن على الفكر العالميّ في ظلّ صعود اليسار الشيوعي، غير أنّ العولميّ مقابل الأمميّ يثير جملة إشكالات تتعلّق بالجانب الثقافيّ الذي عادة ما يضمن للمفاهيم مكوثاً أكبر وأثمن وأكثر قيمة في حركيّة الفكر العالميّ، فإذا كانت الأمميّة لا تعيرُ اهتماماً كبيراً للثقافة والفنون والآداب قياساً مع اهتمامها الآيديولوجيّ المخصوص بالطبقة العاملة والصراع الطبقيّ، -بحيث تكون الثقافة والفنون والآداب مجرّد وسيلة أمميّة لتوكيد فكرة انتصار الطبقة العاملة ودحر البرجوازيّة-، فإنّ العولمة انفتحت على أفق أوسع وأكثر ديناميّة واعتمدت على الثقافة بوصفها الوسيلة الأنجح لتحقيق المقاصد
والأهداف.
ترتبط الثقافة بالحداثة داخل منظور عولميّ ينزع نحو فضاء التحرّر من آليّات التعصّب ولاسيّما في المجال الدينيّ العقيديّ، بما يخلق تبايناً واضحاً بين الفكر الأمميّ القائم على شيوع الثقافة المهنيّة العماليّة وهيمنة اليسار الشيوعيّ على حركة العالم، والفكر العولميّ المستند إلى الثقافة المجرّدة من الغيبيّات والمتّجهة نحو إداء ملموس ومرئيّ وفاعل في تغيير العالم، تضمنه الرأسماليّة بما تملكه من قوّة ماديّة ترعى اكتشافات الثقافة ومنجزاتها العلميّة الفذّة، وفي الوقت نفسه تكرّس قيمها الرأسماليّة بوصفها تحمل حلّاً لمشكلات العالم الحديث.
 ومع ذلك تبقى حدود المفهوم مفتوحة على الجهات كلّها بأفق واسع وشاسع وديناميّ لا يكتفي برؤية واحدة ونموذج واحد وزاوية واحدة، وبذلك تحتمل وتتحمّل قراءات متعدّدة تعود دلالاتها وفضاءات تحليلها وتفسيرها وتأويلها دائماً على مرجعيّة كلّ قراءة، بما تنطوي عليه من أصول ومقتضيات وتمثّلات، وقدرة على مدّ يد التفاهم والتعاضد والتفاعل والتأثير والتأثر بين قراءة وقراءة، ورؤية ورؤية، ضمن توحّد حاسم يضع الأشياء كلّها على منضدة رمل واحدة مشتركة تدعم فكرة الإحاطة بإمكانات المفهوم؛ وبالقدرة على تحويله إلى سلوك ميدانيّ عمليّ، يتّجه نحو إنتاج دلالات وقيم وقضايا لا حصرلها.
انتشرت العولمة على مساحة المجتمعات المدنيّة إذ وجدت أرضاً خصبة لقبول أطروحتها في الانفتاح على العالم، وتوحيدها لحركيّة المفاهيم العاملة في هذا السياق ضمن ضوابط ورؤيات تسهّل عمل الاختيارات الأخرى المتعلّقة بالمزاج الذاتيّ الاجتماعيّ والأدبيّ والثقافيّ المتعلّق بالموسيقا والأغنية والتلفزيون والسينما والفنون الفرديّة والجماعيّة بلا استثناء، ولاسيّما الفنون الأدبيّة الكتابيّة (الشعريّة والسرديّة والدراميّة) التي تقع في دائرة العولمة داخل بؤرة التأثير والتأثر والتداخل الأجناسيّ فيما بينها؛ لأجل تكوين دائرة إبداعيّة أشمل وأوسع، فضلاً عن الإسهام في ابتكار صيغ وأساليب تعبيريّة تناسب العولمة وتستجيب لقضاياها.
ثمّة علاقة تاريخيّة ومفهوميّة وطيدة بين العولمة والحداثة على صعيد بناء الرؤية حول المستقبل، وقد عدّ كثير من الباحثين المتخصّصين الحداثة عملية عولميّة في شكلها ومضمونها وأعرافها وتقاليدها ومقاصدها البنيويّة والتشكيليّة، وفي الحالتين كلتيهما يمكن أن نتيقّن أنّ عصر الكلاسيكيّة انتهى وحلّ بدلاً عنه عصور أخرى حداثيّة لا مكان للتقليد فيها.
وبهذا يكون قد أُسدلَ الستارُ تماماً على الفكر التقليديّ لدى تشكيل الرؤية نحو الأشياء في العالم أجمع، وحين نجد جزءاً مهماً من الوطن العربيّ والإنسان العربيّ ما زال لأسباب أيديولوجيّة وفكريّة وثقافيّة متشبّثاً بالفكر الميّت، فإنّ الحداثة العربيّة لا بدّ أن تكون ناقصة وهشّة وضعيفة لا ترقى إلى مستوى القدرة على اللحاق بتجربة إنتاج ماكنة العصر بتقاناتها الحديثة، وتبقى في دائرة الاستهلاك السلبيّ حيث تجلّى ذلك في الكثير من الأعمال الفنيّة، ولاسيّما الأدبيّة منها روايةً وقصّةً قصيرةً جداً وقصيدةَ النثرعلى وجه الخصوص.