في الذكرى الستين لولادة مجلة «التراث الشعبي»

ثقافة 2023/11/19
...

 لؤي حمزة عبّاس

حققت مجلة «التراث الشعبي»، مع صدور عددها الأول في أيلول/ سبتمبر 1963 بجهود نخبة صغيرة من المثقفين المعنيين، فرادة خطوتها في الثقافتين العراقيَّة والعربيَّة، مؤكدة تميزها عن السائد الثقافي، عبر نقل الاهتمام من مركز الفعل الثقافي الذي تمثله، في العادة، المؤسسة الرسمية ودوائرها، إلى ما كان يُعدّ هامشاً ثانوياً، يقع على الدوام في حكم التقليدي الساذج الذي لا يتطلب سوى الاستعداد الغريزي والموهبة والمهارة الفطريتين، فلم يول عناية الفحص والمتابعة والدرس والتوثيق ما هو جدير بها، فبقي هذا الإبداع يتواصل بعيداً عن اهتمام الثقافة الرسمية، مثلما شهد ترفعاً من قبل المؤسسة الأكاديمية التي أغلقت أبوابها أمام مدّ الثقافة الشعبية وعلو إبداعها، على الرغم من حيوية التراث الشعبي العراقي، من وجهة نظر المجلة، وقدرته على تحقيق روعة الشعور الفني الذي يدفع الإنسان لإنتاج آثاره البسيطة في مظاهرها العظيمة في دلالاتها، مؤكداً فرادة التعبير عن «فلسفة البناء في حياة الشعب، هذه الفلسفة التي تجسّد النظرة الواقعية للفن لدى الفنان الشعبي»(1)، وتمنحه المشروعية لتحقيق ذاته والتأكيد على أهمية ما يُنجز وهو يضفي على وجوده قيمةً وقوةً ومعنى.
إن من أول إنجازات (التراث الشعبي)، المشروع والمجلة، هو ترسيخ الإيمان بعلو منزلة ما يصدر عن حقول الإبداع الشعبي، وقدرته على تمثيل ذات الفنان أسوة بأي فن آخر، فالتراث الشعبي، من منظور المجلة أيضاً، شكّل محاولة الإنسان المثلى «لتجسيد تعلقه بالأرض وكفاحه من أجل أن يمنح الأيام التي يحياها على وجه هذه الأرض حيوية ومعنى، لتكون أكثر خصباً وأعظم عطاءً، رغم ما يعانيه ـ هو ذاته ـ من آلام»(2)، بما يؤكد فاعلية الدوافع التي أُسست عليها المجلة، وقيمة الأهداف التي عملت على تحقيقها، وقد سعت طويلاً من أجل نقل كل ما يقع ضمن التراث الشعبي من موقع الهامش البعيد عن النظر والتفكير، إلى مركز العناية والدرس والتوثيق.
إن أهمية المشروع الذي أعلنته إدارة المجلة وجاهدت في سبيل تحقيقه، لم يمنعا الوسط الثقافي العراقي من الانقسام في تلقيه إلى فريقين، كما أشارت كلمة العدد الثالث للسنة الثانية، إذ أستقبل الفريق الأول المجلة بالبشر والانشراح وقد وجد فيها «استجابةً طبيعيةً لحاجة مجتمعنا في مرحلة انطلاقته الكبرى»، أما الفريق الثاني فقد عدّها «ترفاً عقلياً أراد بها بعض الناس التزلّف إلى الشعب في محاولتهم لإحياء تراثه، وتمنوا لهم ـ منذ العدد الأول ـ الغش [كذا] والخسران»(3).
على الرغم من فضاء التلقي المحتدم، واصلت نخبة المثقفين، في وسط منقسم على نفسه، دعم مشروع المجلة وتبنّي إدارته من سنة أصداره الأولى 1963 حتى تحوّله إلى الرعاية والدعم الحكوميين في العام 1969، وقد أنجزت خمسة وعشرين عدداً يمكن عدّها المرحلة التأسيسية لمشروع التراث الشعبي التي نهض بها إبراهيم الداقوقي وقد تبنّى رئاسة تحرير المجلة، وعبد الحميد العلوجي وقد عمل مديراً لتحرير العددين الأولين، ولطفي الخوري سكرتير التحرير الذي تولى رئاسة التحرير بدءاً من العام 1969، ومحمود العبطة المحامي الذي تولى العمل مدير التحرير المسؤول مع العدد الأول للسنة الثانية، إنه فريق العمل الذي نهض بواحدة من المهمات الكبيرة في تاريخ الثقافة العراقية وهي تخطو باتجاه تحديث وعيها وتجديد نظرتها لذاتها وللعالم، وبناء منظورها الجديد لموقع الإنسان فيه.

الهوامش:
1 -  مجلة التراث الشعبي، ع1 س2، 1964: 1.
2 -  م. ن.
3 -  مجلة التراث الشعبي، ع3 س2، كانون الثاني 1965: 1.