حروب المياه آتية إلى آسيا الوسطى

بانوراما 2023/11/20
...

  لين أودونيل 

  ترجمة: أنيس الصفار 

  في تركمانستان أخذت صنابير المياه تجف في المنازل وزحف الجراد ملتهماً المحاصيل الزراعية. وفي كازاخستان أعلنت حالة الطوارئ مع تقلص مساحة بحر قزوين الذي لم تتبق منه سوى بركة ماء موحلة. وفي أوزبكستان هناك تصاعد انفجاري في الطلب على القطن جراء انتهاء المقاطعة الدولية لعمالة السخرة، والقطن محصول متعطش للماء تسبب في استنزاف بحر آرال. أما حركة طالبان فهي عاكفة على حفر قناة لتحويل المياه من نهر «أمو داريا»، وهو نهر حدودي يمر بخمس دول في آسيا الوسطى التي ضربها الظمأ. وأحيانا تتبادل كل من أفغانستان وإيران إطلاق النار بسبب مشكلة تقاسم المياه عبر الحدود، ويخشى بعض الخبراء من أن الطلقة الأولى فيما يسمى «حرب المياه» التي طال توقعها والحديث عنها قد أطلقت بالفعل.                                         

أسباب المشكلة قديمة 

يعتمد ما يقرب من ملياري إنسان على الأنهار التي تنبع من هضبة التبت وهندوكوش، في جمهوريات آسيا الوسطى الواقعة بينهما والتي كانت ذات يوم جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق. لقد أدى الاهمال طويل الأمد وسوء الإدارة والاسراف في استغلال الموارد المائية، علاوة على الجفاف المستمر منذ سنوات الذي ألهب تراب السهوب بقسوته، إلى إحداث صدمة جعلت حكومات هذه الدول تفيق أخيراً وتنتبه إلى ضرورة التعامل بعقل مع واقع التغير المناخي. وكان رؤساء أوزبكستان وطاجيكستان وتركمانستان قد التقوا في عشق آباد عاصمة تركمانستان خلال شهر آب الماضي في اجتماعهم السنوي، وكان موضوع المياه على رأس جدول الأعمال. ففي هذه المنطقة التي اعتادت أن ترتبط فيها السلطة السياسية بالسيطرة على الموارد تبرز المياه كمورد مهم يتصاعد الطلب عليه بشكل متزايد.

من بين الأمور القليلة التي لا يختلف بشأنها خبراء المياه هو أن التهديد المتعلق بتلاشي المياه من المنطقة حقيقة موجودة، لذا وجب أن يكون الحل جماعياً مشتركاً. إذ يذكّر المتفائلون بثلاثين عاماً أو أكثر من الوئام بين هذه الدول، التي نالت استقلالها بعد تفكك الاتحاد السوفيتي ويشيرون إليها كدليل على أن كازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان قادرة على العمل معاً، في حين يصف آخرون؛ مثل عمير أحمد مدير تحرير موقع «العمود الثالث»، وهي منصة معلومات تختص بمستجمعات المياه في الهملايا، القلق المتولد عن قضية المياه بأنه «حقل الغام دبلوماسي». 

يشير عمير إلى أن الصين لو شاءت المساعدة بشيء من القيادة فسيكون بوسع «منظمة شانغهاي للتعاون» ان تقدم منتدى هو الأفضل ثمرة. بيد أن الصين، التي تعد القوة الدافعة وراء «منظمة شانغهاي للتعاون»، لديها مشكلاتها الخاصة في إدارة المياه، لذا لا نراها تبذل ما يذكر من الاستثمارات في المشاريع الخضراء ضمن إطار مبادرتها الكبيرة للبنى التحتية المسماة «الحزام والطريق» في آسيا الوسطى. يقول عمير: «ليست لدى الصين رغبة محلية في شيء سوى الفوز الكبير.»

مشكلات المياه في آسيا الوسطى قد تسفر عن أي شيء إلا المكاسب الكبيرة. فبحر آرال، الذي كان ذات يوم اكبر بحر داخلي مغلق في العالم تشترك فيه أوزبكستان وكازاخستان، يحتضر ولم يعد منه أمل يرجى، كما يقول أكرم عمروف الاستاذ المشارك في جامعة الاقتصاد العالمي والدبلوماسية في العاصمة الأوزبكية طاشقند. يعلق عمروف بأن: «بحر آرال مات ولم يعد بالوسع انقاذه.»

المياه الوافدة من نهر «سير داريا» في الشمال ونهر «آمو داريا» في الجنوب يجري سحبها لغرض ري المحاصيل الزراعية، لا سيما القطن، قبل وصولها إلى بحر آرال. كذلك لم تسعَ أية بقعة في المنطقة إلى ادخال تقنيات الاستغلال الكفوء للمياه، والتنسيق محدود بين الانظمة الادارية، كما لم يطبق أي نهج نظامي لعموم شبكات المياه يشمل الانهار والبحيرات الاصغر شأناً. يقول عمروف: «ضعف الكفاءة في استغلال المياه مريع، والهدر في المنطقة هائل. يدور حديث كثير بهذا الشأن لكنه يبقى بلا تطبيق.»

ليس أي مما سبق جديداً كلياً، ولكن اشتداد حاجة المنطقة إلى الماء هو الجديد. فتاريخ سوء إدارة المياه في آسيا الوسطى قديم يعود إلى عهد الزعيم السوفياتي ستالين، كما يقول عمير، لأن اسلوب التحديث خلال الحقبة السوفيتية كان يقتصر على جرعات التقوية والمنشطات دون الإلتفات إلى تطوير الاسلوب التقليدي في إدارة المياه، بدلاً من ذلك كانوا يختارون التوجه إلى المشاريع الضخمة التي تبرز «سطوة السياسة على الطبيعة». بعد الاستقلال تولى السلطة في دول آسيا الوسطى حكام فاسدون فرضوا سيطرتهم على الموارد، كما يقول عمير الذي يمضي مضيفاً: «تلك أمور لها انعكاساتها لأنك حينئذ لا تنظر إلى الأرض من زاوية إدارة المياه بل باعتبارها مصدراً لتحقيق الثراء الشخصي وتعزيز النفوذ السياسي.»

لم يكن الاتحاد السوفياتي الدولة الوحيدة التي استخدمت التنمية لإثبات هيمنة الانسان على الطبيعة: ففي منتصف القرن العشرين غدت السدود من الضرورات الحتمية للانطلاق صوب التحول الاقتصادي في الولايات المتحدة ومناطق أخرى من العالم. وفي العقود التي تلت تحركها المكثف نحو التنمية، توجهت الصين نحو بناء السدود على الانهار المنحدرة من هضبة التبت. وخلال الفترة الاخيرة أدى ذلك النشاط إلى تصعيد التوترات بينها وبين جيرانها من دول المصب الذين اصبحوا مرغمين على التعامل مع تبعات إزالة الغابات وتراكمات الطمي والفيضانات وملوحة التربة والجفاف.

يقول عمير: «هذه مشكلة مستمرة في التفاقم بسبب تغير المناخ والانماط المتبعة في التنمية والإدارة.»


الاتفاقيات وقصور السياسة 

يتجسد جانب من المشكلة في إصرار البلدان الواقعة في مناطق تعاني من الضائقة المائية على وضع رهاناتها الاقتصادية في أسوأ المواضع. فالبرسيم، وهو محصول شديد الحاجة إلى الماء، يزرع على نطاق واسع في مناطق الجنوب الغربي من الولايات المتحدة التي أضرّ بها الجفاف، وفي كثير من الاحيان يكون ذلك لحساب مستثمرين سعوديين. مصر هي الأخرى بنت اقتصادها الحديث على انتاج القطن الذي يتطلب الماء بشدة، وهذا أدى إلى احتدام النزاع بينها وبين أثيوبيا الواقعة أعلى النهر بشأن مصير سد النهضة الاثيوبي الكبير. 

أوزبكستان ايضاً اختارت التركيز على القطن لعقود من الزمن وتخصصت في انتاجه خلال الحقبة السوفياتية حين كان الحصاد يتم من خلال برامج العمل القسري بإدارة الدولة، كما وصفتها منظمة «هيومان رايتس ووتش». استمرت هذه الممارسة بعد الاستقلال وأدت إلى مقاطعة دامت 11 عاماً من قبل 330 شركة في الولايات المتحدة ودول اخرى لم تنتهِ إلا في العام الماضي، وقد أدى ذلك إلى ضخ استثمارات جديدة بهدف زيادة الانتاج، وفقاً لوزارة الزراعة الأميركية، بيد ان زراعة المزيد من القطن سيكون معناه بشكل شبه مؤكد تفاقم الطلب على المياه.

هناك اتفاقيات عابرة للحدود واتفاقيات تعاون يرجع تاريخها لعقود من الزمن أوشكت ان تلفظ انفاسها منذ زمن ولكن يعاد إحياؤها الان، بحسب عمروف. تشمل هذه الاتفاقيات «الصندوق الدولي لإنقاذ بحر آرال» و»اللجنة المشتركة بين الدول للتنسيق المائي في آسيا الوسطى». ومن المحتمل ان تكون هناك اتفاقيات اخرى جديدة.

يضيف عمروف قائلاً: «فهم المشكلة يعني ان الماء الان سيكون دائماً على جدول أعمال جميع المفاوضات بين الدول.» لكن ثمة طرفا عصيّا في هذه الخلطة، لأن حركة طالبان هي التي تتولى الحكم الآن في افغانستان، التي تتشاطر نهر «أمو داريا» الحدودي مع تركمانستان وأوزبكستان وطاجيكستان، وقد أثبت قيادة هذه الحركة اليوم أنها متصلبة بشأن المياه مثل بقية الشؤون التي تتولاها في البلاد، بعد أن أوضحت أنها قضية كبرى بالنسبة للمجتمع الأفغاني، الريفي بمعظمه والمبتلى بالجفاف.

تورد وسائل الاعلام في افغانستان بشكل منتظم تقارير تتحدث عن انشاء سدود ومشاريع للامداد بالمياه. وخلال شهر أيار اندلعت اشتباكات مسلحة عبر الحدود الغربية مع إيران سقط فيها قتلى من الجانبين بسبب تقاسم نهر هلمند، الذي كان سبباً للنزاع بين الطرفين على مدى 150 عاماً على الأقل. ينبع النهر من هضبة هندوكوش شرق كابول ثم يجري ليروي المزارع الواقعة جنوب افغانستان. كما انه حيوي للغاية بالنسبة للمزارعين لمنطقة جنوب شرق إيران. وفي أواخر شهر تموز الماضي صرح ناصر كنعاني المتحدث باسم وزارة الخارجية الايرانية بأن المحادثات الثنائية أخذت تحرز بعض التقدم.


قناة طالبان الجديدة

بيد أن حكومة طالبان لا تتوقف عند هذا الحد. فجيران افغانستان في آسيا الوسطى واقعون حالياً بين شد وجذب بسبب قرار أفغانستان شق قناة عملاقة من دون التشاور مع الدول المتشاطئة الاخرى، وهذه ستؤدي إلى خفض مناسيب المياه في نهر أمو داريا بحدود النصف. ترجو حكومة طالبان من وراء ذلك ان تحيل الصحراء الشمالية إلى أراضٍ زراعية عن طريق قناة قوش تيبا، التي تخشى أوزبكستان من أنها ستقتطع نصيباً من مواردها المخصصة للزراعة. لكن ضعف الخبرة الهندسية الناجم عن 50 عاماً من نزيف الادمغة، تعني أن كل ما يفعله العاملون في واقع الحال هو حفر حفرة كبيرة توصل الماء من النهر إلى الأراضي الزراعية، بحسب توضيح اسكندر عبد اللاييف استاذ علم البيئة في مركز التنمية الدولية والبحث البيئي في جامعة «جاستس لايبغ» في ألمانيا.

يمضي عبد اللاييف مستطرداً: «لا يوجد تخطيط بالشكل المطلوب ولا هندسة ولا ضوابط، كما لا توجد هناك اجراءات للحيلولة من دون فقدان الماء عن طريق الرشح، لذا لن تصل إلى مرحلة الاستخدام المثمر سوى نصف كمية الماء أو نحو ذلك، بينما يذهب النصف الاخر هدراً في الصحراء. ثمة اسباب كثيرة تدعو للقلق ولا يمكن تصور كيف ستدار هذه القناة أو تستخدم بكفاءة.»

من الممكن أن يدفع إصرار حكومة طالبان على موقفها دول آسيا الوسطى القاحلة إلى الاقدام على خطوة ما للاحتفاظ بالمياه لصالحهم، كما يقول عبد اللاييف، ويضيف: «ليس ثمة سبيل لإقناع حكومة طالبان بالتوقف، لأنهم لن يتوقفوا. فالارض أرضهم ونهر أمو داريا يجري داخل افغانستان قبل خروجه منها.» 

ذلك كله سيحتم ذات يوم وقفة لتصفية الحساب بين جيران يرمق كل منهم جاره بعين الاستياء والغضب. 

يختتم عبد اللاييف قائلاً: «التعامل مع حركة طالبان ليس سهلاً، ولكن الوقت لم يفت بعد. هذه مجرد البداية لسلسلة من التفاعلات الجدية بين آسيا الوسطى وافغانستان حول الشؤون المتعلقة بالمياه.»


عن مجلة «فورن بولسي» الأميركية