كدمات

ولد وبنت 2023/11/20
...

 عواطف مدلول

كان صوت الركاب وسائق الحافلة، وهم ينادون عليها أشبه بالصحوة المفاجئة، التي تجعلها تستفيق من غيبوبة موت، سبق ذلك إحساسها الحزين اللحظي، حينما انتبهت ليديها خاليتين تماما من أي شيء، لا حقيبة ولا حتى نظارت شمسية، حيث دأبت كلما جلست بـ{التكسي} أن تحملها بيدها، وتعاود ارتداءها حينما تغادر السيارة، لبضع ثوان رافقتها الحيرة، وهي واقفة أمام الشارع المؤدي إلى بيت أهلها عند أسواق السعادة.

التفتت خلفها لمصدر الصوت، فشاهدت أن الجميع في الحافلة يؤشرون إليها بأيديهم، علمت وقتها أنها نسيت حقيبتها هناك، ركضت نحوهم، وقد ارتسمت على وجهها ملامح فرح وخجل في آن واحد، وما أن فتحت الباب حتى تلقت أنواعًا من التعليقات الطافحة بالطرافة والمزاح، (عيني ست ليش نزلتي وتركتي الحقيبة أكيد بيها فلوس هواية؟)، (ردنا ناخذها وما نخبرك)، فأجابتهم ببعض كلمات الشكر مع عبارة أطلقتها، وكأنها تقصد تنبيههم على موضوع آخر، (النسيان يرافق دائما الكبار بالعمر)، سكتوا مندهشين لمبالغتها بوصف نفسها وكأنها بمرحلة الشيخوخة واليأس، فكما يبدو لهم لم تتعدَ سن الثلاثينيات وليس أكثر من ذلك.

غادرت سريعًا بعد أن تبادلت ابتسامات امتنان مع السيدة، التي كانت تجلس قريبا على الباب، وهي تضع قدمها على الرصيف لتستقر فيه، وجدت نفسها على فراشها بغرفة نومها.

تلمست جسدها تحت الغطاء، الذي انزلق نصفه أسفل السرير، وفي لحظة إدراك عميقة اكتشفت أنه كان مجرد حلم، حديث النفس الذي يدور يوميا بمخيلتها أول استيقاظها، لم يكن سلبيا مثل كل مرة، فقد تأملت بذهول القصة، التي حصلت معها في المنام محاولة استرجاع تفاصيلها، مستغربة، لأنها اعتادت أن تكون أحلامها غير مكتملة، دائما تنقصها النهايات فتصحو منها منزعجة وقلقة، تشكو من حالة سيئة ومزاج متكدر، وعلى أساسها أحيانا ترسم سيناريوهات خوف شتى من أيامها المقبلة، لكن هذا الصباح ختم الحلم بالتمام، تنبأت أن يحصل لها أمرٌ مفرحٌ يفوق التوقع، ربما يحدث انتقالا فعليًّا بحياتها الرتيبة، التي تقف عند بوابة السكون منذ سنوات.

تتشاءم جدا وتتضايق من عدم الاكتمال بكل الحكايات في حياتها، حتى التي تعيشها بالأحلام، ولطالما غادرتها بعدم رضا وبدون رجعة، بعد أن ضيّعت فيها كثير من الأشياء الثمينة لديها والعزيزة على قلبها وكذلك بالنسبة للأشخاص، فتارة تفقد حذاءها أو فردة واحدة منها، وتارة أخرى بعض القطع من ملابسها واكسسواراتها من خواتم وسلاسل وأقراط، أو تنسى حقيبتها بمكان ما، وأحيانا تخسر أحد أسنانها أو جميعها أو أناسا تحبّهم يغيبون عنها بلا عودة.

وفي زحمة الأفكار وصفت هذه الرؤيا إشارة لقدر جديد ربما سوف يكتب لها، يلبي أمنياتها المعلقة منذ سنوات بلا أمل، الواقع لا يختلف لديها عمّا يجري في عالم الأحلام، لكن الفرق هي من تصنعه وتختاره، فكل أعمالها ومشاريعها أما مؤجلة أو متروكة في زاوية الاهمال والسبات، إيمانا منها بأن من البديهي أن ليس كل الامور ينبغي أن تختم وتصل لدرجة النضج والتعقل، وذلك يبعث في نفسها ارتياحا يدفعها للتغاضي عن كل الخسائر التي تعرضت لها، ومحطات الفشل التي وقفت فيها طويلا، دون أن تلوم نفسها أو تشعر بالذنب بسببها.

 تذكرت أنها نامت أمس مثقلة بالهموم فهمّت لكشف جسدها تحت الضوء، باحثة عن كدمات الحزن الزرقاء أو الحمراء، التي ترتسم عليه دوما كلما رقدت على أسى ودموع، لم تجد أيَّ أثر لها، أغمضت عينيها، وتنفست بعمق قائلة لنفسها: الخواطر المنكسرة قد يجبرها حلم (رسالة من الله) فتطمئن...  وتفهم.