الذات العاشقة للوطن والمرأة

ثقافة 2023/11/20
...

 باقر صاحب

أول ما يدهشك في مطلع رواية (عباءة غنيمة) للكويتية عائشة عدنان المحمود، إنه مكتظ بالأسئلة عن المكان وانتماء الراوي المتكلم، في أغلب فصول الرواية الثلاثة ومقاطعها المتعددة، إليه. وهنا يتبادر إلى ذهن القارئ الراصد، هل مجريات الرواية تجيب عن تلك الأسئلة أم  تجعل ذهن  القارئ محملا بها، مستشفاً إجاباتها بين السطور. وربما يكون مفتاح الإجابة الأول  مقترناً  بلقاءٍ صحفيٍّ بين الراوي المتكلم، الذي سنكتشف لاحقاً بأن اسمه « فيصل» وصحفيٍّ شاب، فيسأله الأخير: هل تحبُّ الفريج (الفريج باللهجة الكويتية يعني الحي أو الحارة)، بالتأكيد يجيب الراوي»، نعم، أحبّ الفريج وأحبُّ أهله، أقصد: أحبُّ أهلي»: الرواية: ص10.

جرى اللقاء في تموز 1990، وهذا يسحب الذاكرة إلى الشهر الذي سبق حدث غزو الكويت، في عهد  النظام العراقي المباد، في 2 آب 1990، الغزو الذي مأزقَ العراق جيشاً وشعباً، حيث أدّى  إلى نشوب حرب الخليج الثانية، وهزيمة الجيش العراقي السابق، وفرض حصارٍ قاسٍ، كان ضحيته الشعب العراقي، لم ينتهِ إلاّ بنشوب حرب الخليج الثالثة في 20 آذار2003 ، وسقوط  النظام في 9  نيسان من ذلك العام. في يوم 2آب 1990 شاهد فيصل جنوداً يرتدون بذلاتٍ عسكرية، غير تلك التي يرتديها الجيش الكويتي، ينتشرون مع آلياتهم الثقيلة. 

بالعودة إلى البدايات، أو بالأحرى بدء سيرة حياة بطل الرواية فيصل، تعمدت الروائية عائشة المحمود إلى توأمة  حدث ولادة  فيصل بحدث نكبة فلسطين في 15 مايو عام 1948، مثلما توأمت حدث رحيله في يوم 2آب 1990، وفي هذا دلالةٌ، على عشقه لوطنه الكويت، مثلما هو دلالة على شقاءاته المتوالية، متوجةً بحبّه الأول والأخير لأستاذته (لين)، كما نذكر تفصيل ذلك لاحقا. المعادل الموضوعي لشقاءات فيصل، غنيمة، المرأة الغريبة، بعباءتها التي لا تستر كامل جسدها، فأرعبت فيصل مذ كان عمره  ثمانية أعوام، وتستمر بملاحقته في كلِّ مكان، الأمر الذي يمكن تأويله على أنه كابوسٌ يرمز إلى الأحداث المريرة التي سيواجهها فيصل طوال حياته، لذا يمكن القول أن تسمية الرواية بـ (عباءة غنيمة) هي معادلٌ موضوعيٌّ لسيرورة حياة فيصل، وكذلك أحداث الكويت خاصةً والأمة العربية عامةً وقضيتها الرئيسة فلسطين. الرواية رصدٌ دائمٌ لتشكلات الوعي لدى فيصل، بعد أن دخل عالم المراهقة، فتثير الروائية، قضية الذكورة ومضادّتها الأنوثة، عند فيصل وأخته بدور، التي تكبره بسنوات، فهو يحاول إثبات رجولته، كيلا يُقالَ له من قبل نظرائه جبان، وهنا المجتمع المحيط كله يدعم إنماء هذا الحسّ الرجولي، وفي الوقت نفسه يدعم إحباط الهاجس الأنثوي عند بدور، خشيةً من عواقب ترك هذا الهاجس ينمو، ويمضي في دروبٍ محظورةٍ من قبل المجتمع الذكوري، خاصةً فيصل الذي يشعر من خلالها أنّه ذو أطوارٍ غريبة، فيتعاطف مع الهاجس الأنثوي لدى بدور، ويعرف أنها تفتقد (فهد) وتميل إليه، وهو من أقارب العائلة. ما يميّز الرواية، إن كاتبتها، نجحت على مسار جميع صفحات الرواية في الدمج بين الخاص والعام،  يسرد الراوي المتكلم والمشارك أيضاً، مجريات الليلة، التي تم فيها إعلاء طقوس الفرح بزواج فاطمة بنت خالة فيصل، تشابك معها إعلان استقلال دولة الكويت بعد إلغاء اتفاقية الحماية البريطانية، أكثرُ من فرح بذلك غازي والد فيصل، بوصفه من الجيل القديم، فهو يدوّن في دفتر مذكراته كلَّ الأحداث الفارقة التي يمرُّ بها وطنه، وبالنسبة لفيصل، مع تنامي إدراكه، أدرك سرَّ سعادة أبيه، وذلك راجعٌ إلى حسِّه الوطني، وإذا كان فيصل يمثّل  الجيل الجديد، فإن سنوات عمره الثانية والأربعين تقريباً، تمثّل سيرة نهوض الكويت، كدولةٍ حديثةٍ بعد الطفرة النفطية، وهنا نعود إلى القول بنجاح الروائية عائشة المحمود  في توظيف الانتقالات الزمنية والتحولات المكانية في البنية الروائية  بصورةٍ غير اعتباطية، وهنا نرصد الذاكرة الزمكانية للأب غازي، متمثلةً بحزنه إزاء محاولة بلدٍ مجاور، يقصد به العراق، اعتبار الكويت جزءاً منه، في بدايات ستينيات القرن الماضي، كما دوّن، بحزن، انفصام الوحدة بين مصر وسوريا. مدوّنات غازي في دفتر مذكراته يقابلها تنامي الوعي الشفهي لفيصل.

المحمود عبر سرديات الراوي المتكلم أكّدت ضرورة التفاعل بين الجيلين القديم والجديد، بين الآباء والأبناء، لجهة قوة الحّس الوطني للجيل القديم لأنه عانى الكثير من ويلات الهيمنة الأجنبية، لذا كان فيصل فخوراً بأبيه، فيقول عنه:»في الوقت القليل جداً الذي يقضيه في المنزل كان يغلق على نفسه باب المكتب المتطرّف بالساعات الطوال ليكتب ويدوّن ويقرأ ويعيد ترتيب خارطة المقبل على وطنه»: الرواية ص 86 لا يخلو فصلٌ أو مقاطعٌ متفرعةٌ في الرواية من أحداثِ تشدّ القارئ إليها، عبر لغةٍ شاعريةٍ بصمتْ نجاح عائشة المحمود في تعشيق روايتها بالسرد والشعر معاً، فعلى مستوى الاهتمام المكاني، أولاً: سرور فيصل بانتقال أسرة الأستاذ ناظم مدرس اللغة العربية في الثانوية، بجوار بيتهم، هذا التجاور أسهم في تنمية وعي فيصل عبر مكتبة ناظم الكبيرة، ثانياً: تأثّر فيصل بالقضية الفلسطينية، عبر سرديّات ناظم له بشأن ما جرى لهم من تهجير عن بلدتهم يافا، وعن أمّه التي أبت أن تأتي معهم، كي تبقى هناك. وعلى المستوى  الاجتماعي: زواج بدور، التي يعزّها فيصل كثيراً، وذهاب أخيه الكبير عبد العزيز إلى القاهرة للدراسة الجامعية فيها، وكذلك هناك  من يسعى لخطف غازي من زوجته الأصيلة مريم، ألا وهي الخادمة أمينة، ويبدو أنَّ غازي، كأيِّ أبٍ شرقي لا يرفض تعدّد الزوجات وهذا ما سيحصل.                                                               

الانتقالات المكانية في الرواية أضفت عليها عنصر تشويق يجعل القارئ مفتوناً برحلة بطل الرواية إلى بيروت لغرض الدراسة، الروائية عائشة المحمود وفّقت في تزويدنا بانطباعٍ بارعٍ جداً عن بيروت الستينيات، فبطل الراوية وراويها المتكلم أحسَّ ببونٍ شاسعٍ بين ما كان عليه وبين وما أصبح فيه، حيث يقول: «كان الفارق المشاعري الفاصل بين فريجنا وساحل بيروت يشكّل هوّةً جامحةً من الاختلافات القادرة على دفع الواحد منّا إلى التشكّل»: الرواية ص98، ويمضي السارد في الإفصاح عن كلِّ التشكّلات الجديدة، لدرجة أنه أصبحَ فيصلاً جديداً. هذه التشكّلات ساعدت على إنمائها أجواء الحرية في بيروت، حيث أصبحت له نخبةٌ من الأصدقاء، يتناقشون فيما بينهم، بأدقّ التفاصيل في السياسة ومجريات الأحداث في العالم العربي.  

ويمكن القول إن هناك شقّين من التحوّلات عصفت بفيصل في بيروت، وجعلت منه إنساناً مختلفاً جذرياً: الشقُّ الأوّل سياسي، حيث اندفع عن قناعةِ عميقةٍ في الانتماء إلى تيار القوميين العرب، التيار الذي وُلد من رحم نكبة فلسطين، أي تزامن مع ولادته، والثاني: عاطفي، حيث عاش لأوّل مرّةٍ قصّةَ حبٍ عاصفةٍ مع أستاذته الجامعية لين وهي سوريّة، تسردها الروائية بفيضٍ كاملٍ من التشويق والذهاب بمغامرة الحبّ إلى أقصاها، بعيداً عن كلّ الشائعات والحواجز. ما أضفى على قصّة حبّ فيصل ولين جماليّتها، هو ذلك التحرّر الكاملُ لهذه المرأة، التي تنتمي عائلتها إلى تيارٍ سياسيٍّ متنفذٍ في سوريا. التعلّق الكلّي بلين، أفضى بفيصل أخيراً إلى العطب، بعد أن اختفتْ كلياً، بحث عنها في كلّ مكان، بعد أن انتقلت إلى باريس خلال أعوام الحرب الأهلية في لبنان. لم يعثرْ لها على أيّ أثر، فقفل راجعاً إلى بلاده، يضمّد جراحه هناك، حيث ازداد نفوذ أبيه وأخيه تجارياً وسياسياً، وانتقلت العائلة إلى إحدى الضواحي الحديثة في الكويت العاصمة، عاد إلى النكسات، رغم الجناح المستقل له في بيتٍ مكوّنٍ من ثلاثة طوابق، النكسة الكبيرة هو زواج غازي من الخادمة أمينة، ما قصم ظهر الزوجة الوفية مريم، زدْ على ذلك أن أمينة أنجبت له ذرّيّة، ولكنّها كانت بنتاً جميلة، بالرغم من كلِّ شيءٍ أصبحت محبوبةً

من الجميع.