بشير مهدي.. استعارات متحف الذاكرة الصوريَّة

ثقافة 2023/11/21
...

  د.جواد الزيدي

ينفتح الفنان بشير مهدي بكل مدركاته الحسية والعقلية على متحف الذاكرة، بوصفه منهلا لصورته المرسومة، التي تمثل معادلاً موضوعياً لفقدانه الفعل الحقيقي والحادثة المكانية وامكانية جعلها خطوة باتجاه ترميم روحه والاستعاضة عن فراغ مغادرة الأهل والوطن، مضطراً بفعل ظروف خارجة عن ارادته. متحفه الذي ينشطر في ما بعد الى عدد هائل من الصور المتشظية والرموز التي تحتفظ بمرجعياتها الخارجية المباشرة مرة، وفي أُخرى تحتاج الى طاقة تأويلية تدلنا على المعنى الكامن فيها، إذ تظهر الأشياء كما لو أنها بمتحف حقيقي مثل الجماجم، التي استبدلها بالرأس وهي تتدثر غطاء الفنان وتلتحف باثاث غرفة نومه، أو حين تجسد موجودات معلقة على جدار غرفته نفسها كأجساد وكائنات محنطة وفؤوس، بما يحقق نظاما استعاريا من المتحف إليها. صورته وايقونته ومنظومته العلامية المأخوذة من واقعه المعيش ممثلة في بعض المرموزات الشعبية التي يحتفظ بها متحفه الصوري في اللوحة المرسومة ومنطقها الجمالي، ولكنها في الوقت ذاته تنفتح على متحف خارجي يجيد التعالق والتشاكل بينها في ضوء ذلك المنطق، الذي ترتبط فيه أواصر الماضي بالحاضر والاشارة بوضوح الى الحبل السري الذي أخفته والدته في المدرسة المجاورة. هذا الحبل يشي بمضامينه التي تجد أكثر من صلة بين زمنين متضايفين في لوحته الواحدة تأتي من خلال الجمع بين حوادث تلك الأزمنة والحوادث العالقة في ضمير (مهدي) وقناعاته، ولم يستطع التحرر منها مهما فارقت بينهما المسافات وذهبت به الى أمكنة وفضاءات جديدة تشي بمرموزات وحوادث أُخرى غير تلك الكامنه بداخله، ولكنه يأبى أن يغادر ذلك الفضاء لأن محمولاته الدلالية تمثل لحظة وجودية بالنسبة لحياته المعاصرة مهما حاول التكيف مع فضائه الآني المختلف في نسق المعيشة وطرائق التفكير والتوجهات والأقنعة، التي يرسمها في لوحته بوصفها احتفاءً بالماضي المنعقد في لحظته الآنية بحبل وثيق لا يمكن الفكاك منه.
وبفعل محاكاة الأثر القابع في شريط الذاكرة الصورية، بما يؤمن العلاقة مع الأشياء المحببة والمصاحبة التي تذكرنا بأحذية (فان كوخ)، فإن (مهدي) يحتفي بالمهملات والموجودات اليومية التي غادرتها الحياة الحضارية مثل الأباريق والكراسي المهشمة وزوج أحذية قديم وآنية الماء ذات الاستخدامات المتعددة، التي تحفر موضعها داخل غرفة النوم أو غرفة المعيشة مزدوجة الأغراض في الحياة العراقية البسيطة، ليؤسس علاقة بين الأثر القادم من عالمه الفعلي الى وجوده الجديد عالم اللوحة الذي تعتاش عليه الذاكرة مرة أُخرى بعد إعادة هيكلته بصورة فنية جمالية تترك أثرها داخل سياق التلقي في ضوء الاحتفاء بهيبة المكان الروحية أو المكان الأجمل، الذي غادره بشكل فعلي، إذ ما زال يعيش  بداخله على الرغم من الفواصل الزمنية المتصلة في القطيعه بينهما (الفنان والمكان). ومن خلال هذا يحاول المزاوجة أو التضايف بين الأمكنة المتعددة في صورتيها البدائية والمعاصرة الذين صنعتهما سلطة التخيل على هيئة خطاب مرئي له مسانده الفكرية. فصورة الحصان في الحقل المجاور ينتقل الى مكان جديد في اللوحة المرسومة والمعلقة على الجدار الداخلي، لغرفة الفنان نفسه. وهذه المصاحبة للأشياء لا تعني استجلاب صورة من خارج سياق حياته أو الأنماط التي اتسم بها واقعه المعيش، بل قد تكون احذيته القديمة المرافقة في غرفة معيشته وأباريقه وخيوله وآنيته التي غادرها ذات مرة، ولم يعد إليها وشكل الحنين موضوعاً أثيراً حاول اعتماده في خطابه المرئي. بمعنى أن فلسفة تصير اللوحة وانشائها يبدأ من هيمنة المكان وموجوداته المحببة التي تحيا داخل ذاته ويصطفيها بعناية كبيرة تتلاءم مع طبيعة الجنس الفني (الرسم)، محاولا إضفاء تلك الجمالية عليها من خلال فعل المحاكاة الصورية التي تطيح بالأنساق الواقعية للصورة وتضيف إليها ممكنات عصرية تتفوق بها على طبيعة الصورة الأولى، فيظهر الحقل زاهياً والحصان بشكل أكثر جمالاً وصولاً لتأثيث غرفة المعيشة بكامل الموجودات المكملة لبنية الصورة في حدودها المنطقية وزمنها الفعلي، إلا أنها في الوقت نفسه تتخذ من اشتراطات العصرنة أشياءً تحيط بها وتدفعها الى مقدمة الاحتفاء إزاء لحظة التلقي.
إن فعلي التضايف والاستعارة الرمزية يعنيان في كثير من فاعليتهما، ضمن نطاق عمله الفني تمظهر جدلية العلاقة بين الزمان والمكان، حين يدل أحدهما على الآخر، أو الأنظمة الاستبدالية المرتبطة بمبدأ الاستعارة المكانية، أو استبدال الرمز بالموجود الحقيقي، ويتحقق هذا نتيجة التأمل الحدسي الذي يعتمده في النظر الى الواقعة وتفسيرها والوصول الى صورة كامنة في الذاكرة، بوصفها (أي الذاكرة) المادة الحية، التي يستقي منها الديمومة الخالصة واستمرارية فاعلية الزمن وأثره غلى النتاج المرئي وراهنه
الحالي.
ويعمد بشير مهدي في جميع أعماله إلى توظيف رمزية النافذة التي تفصل بين صورة عتيقة كامنة في الذاكرة، وأخرى حاضرة من خلال ستائر شفافة يتكرس من خلالها فحص الماضي والنظر اليه بعين متأملة مفتوحة على المستقبل أو العالم الموضوعي، والعبور إلى ضفة أخرى يمكن أن تكون معادلاً موضوعياً وبديلاً عن عتمة الخارج ولحظته المأساوية. فهو في رسم البورتريت يحاول مصاحبة صورته الشخصية وبيان ارتدادات الزمن وتأثيره عليها ويحيطها بالأناقة، من أجل أن تكون العقود الأربعة التي أمضاها بعيداً عن بنيته المكانية الجميلة هي قصدية السعي لتلميع ذلك الأسى والهيئة الملفعة بالقناع أو عملية محو الأثر على الصورة المرسومة واحدث تغييرات في بنية الذات الظاهرة على الوجه او القناع الخارجي. إذ لم تكن قصدية رسم الصورة الشخصية هي استنساخها، بل هو التعمق برسم الذات المنعكسة على ظاهرها. فصورته على الرغم من مرجعياتها ذات الاصول الواقعية، إلا أنها تتحول الى شفرات في وجودها الجديد وتحتاج إلى آليات لتفكيك بناها الرابطة وعلاقاتها التركيبية، التي تفرض فضاءً مغايراً إزاء لحظة القراءة والتأويل، كونها شيدت على وفق منظومات جمالية مغايرة لنسقها القديم، بما يؤسس توافر منظومة جديدة لتركيب البنى  الناتجة عن تفكيك البنية القديمة في ضوء مواقع الموجودات وهيكليتها الراهنة.