سَرَقتُ أُمّي

ثقافة 2023/11/21
...

 حاتم حسين

غالبا ما أبتسمُ مع نفسي لسوء تصرفي واستعجالي، وكأنّي أحد أفراد عائلته أو المسؤول عنه، وعن خروقاته التي لا تطاق، مما حدا بي يوميا إلى محاسبته، حتى إنّي ضربته بمقبض (الطاوه المقلاة)، التي كنت أحاول فيها قلي البيض. فهو يضع دائما فاصلاً بيني وبينه متوقعا ردودَ أفْعالي تجاه أخبارهِ السيئة التي تصلني أو التي يُخبرني عنها، فالصباح قد أزف، وأنا أتجهز للخروج والالتحاق بالعمل حين كنت أقلب البيض المقلي أثناء عملي في المطبخ، تذكرته فهو لا يعود إلّا مع أوّل الصباح، مشفقاً على رؤيته المتعبة الكئيبة، وهو يُخبّئ عنّي خروجه الليلي المستمر، لكنّه أخبرني بأنّ أمّه طريحة فراش المرض، وأنّه الأبنُ المعني بها، والمتفرغُ لرعايتها في البيت. فقد أخبرني بخروجه الليلي كلما اطمئن على أمّه  قد نامت، وأنا ساخطٌ عليه، إِذ كيف يتسنّى لُه تركها كلّ هذا الليلِ، وهذا الوقت، تصرفات غريبة بدأت تطرأ عليه، وهو يحاول إخفاءَها عني أو مصارحتي، والإفصاح عمّا في نفسه من الفعلة الشنعاء التي اقترفها. الحقيقة هذه التصرفات زرعت في قلبي  نَبوةً  وغضبا، وأنا أراه مُتعب الملامِح كئيبَ  المنظر من الإجهاد، والسهر حين عاوده التفكير بشهوة الحصول على المال بأيِّ طريقة كانت، بل دعته إلى أن يسرق أمّه، كانت تخبئ مبلغا من المال تحت وسادتها، استرسل بصوته المبحوح.
 قائلا: أنا سرقتُ أمّي.
- وهي ممدّدة على السرير، أُجاهد في رعايتها، وأحاطتها كي أستغلَّ الفرصة، مع إِنّها ظلّت قلقة غير مُطْمئنة لكلّ هذا الاهتمام لعلّها تغفو، وتنام. وحين نامت، انتزعت من تحت سريرها، ما كانت تذخره لمعيشتنا، وأنا أتصبّب عرقا، إذ كيف أقدمتُ على هذه الخطوة.. فهي  آخر ما تبقى لنا من مصرف البيت، وثمن عيادة طبيبها. كانت متعبة. خائرة القوى كأنّ حدسا ألهمني بأنّي سأعضُّ أصابعَ الندم. رغم ذلك فإنّي سرقتها، وكم تمنيت أن أعود مسرعا لأعيد المبلغ الذي سرقته  وخسرته إلى تحت سريرها من دون أن تعلم، ولكن هيهات أتعظّ، وأتوب فقد أقسمت كثيرا بِكتاب الله أن لا أعود إلى مرضي الذي تفشى في كياني. كنتُ ابتهل إلى الله أن أكون إنسانا آخر، تضرعتُ إلى الله يا رب. انقذني ممّا أنا فيه؟ يا ربّ إجعلني إنسانا سويا مستقيما كي أعود الى نفسي المطمئنة، أُقنع نفسي بأنّي سأتوب، وأكفّ عن غرائزي العقيمة، وتصرفاتي المريبة. لكنّي لم أتب، بل كنت أُخادع نفسي الأمارة بالسوء، وأنا أحوم في الليالي على نوادٍ (للدنبلة) وسط عشرات من البشر المُولعين مثلي بهذه اللعبة المجنونة. وجوهٌ مخيفهٌِ وبشعر طويل لا ترجو  منهما خيراً، أو تدلّ على الطمأنينة، كنت أجلس معهم على أملِ الفوز والربح السريع، لعبت بكلّ ما أملك من المال لعلّي أعوّض خسارتي الفادحة، لعبت بجنون، بل لم أكتف من اللعب  حتى طلوع الشمس. كنت  أسمع صوت الآذان، وهو ينادي (الله اكبر) الذي كان يشعرني بداخلي الملوث. وأنا أتناول حبات (الكريستال)، التي بدأت في تعاطيها كي أزيد من هلوستي، وشدّ مُقاومتي، كان وقع الخبر صاعقا عليّ حين  أتصل بي، وذهبت إلى المشفى لأرى أمّهِ، وهي تحتضر، والممرضات يحاولن إِسعافِها، قالت بإجهاد وهي تفتح عينيها: لمَ، لم تأخذني إلى المشفى الخاص، وتحت سريري المال، كانت تشير إليه لتُحسسّه بإنها تعرف لماذا تركها كلَّ هذا الليلِ، وكلّ هذه الأيام لينغمس في لعبته
المجنونة.
نصحتُه مِراراً وقلت له: يا وعد اِترك القمار، أنا أعطيك ما خسرت، ولا تَعد لهذه اللعبة المجنونة التي تستنزفك يوميا، اترك يا وعد.. فنحن نعمل بعرق جباهنا، وما نحصل عليه من مالٍ حلال. ولكنّ لم يعد للنصيحة مُتّسعٌ، وأنا أرى الممرضة تغطي وجهها، ماتت أمّهُ المقدسة أمام عينيه. وأغمضت إلى الأبد. شاهدة على جريمة ولدها الذي انحرف عن جادة الصواب. أرتجَّ عقله من صحوت (الحبوب المخدرة) وهو يرى أمّه في دقائقها الأخيرة. مؤنب الضمير. باكيا نادباً نفسه، أنا سرقت أمي، أمي التي ربّتني، وأفنت عمرها لأجلي، وعلمتني وأخذتني إلى المدارس، أنا قتلت أمي وضيّعتُ نفسي. ثمّة فرص لا تعود، وأنا أراه يبكي بحرقة ويقبّل وجهها ويديها، سامحيني
يا أمي.
ومن أين يأتي السماح، وهو يقف على قبرها. ويتذّكر كيف سجلته بنفسها وأخذته إلى المدرسة في سنواته الأولى وكيف أطعمته وسقته، لكنّه لم يَكن باراً بها، وهي في مرضها، نزت من عينيه دموعٌ حارقةٌ.
 كان لابدّ  لي كصديق أن أفترق عنه، وأختار طريقي بعد هذه الحادثة المؤلمة التي أرهقتني، جلسنا نحتسي القهوة بعد  شهر من حادثة رحيل أمّه، صافحته مودعا قائلا له: أتمنى أن تُصلح نفسك يا صديقي. وأن تتعلّم من هذا الدرس.. فليست الحياة محصورة بما تملك فقط، بل بما تعمل، وتصل إليه، وأن تحتل مكانا طيبا في نفوس كلِّ من له علاقة بك، أو يعرفك، فأنت في أوّل الطريق، وانغمستَ في طريق مثقلٍ بالضياع والجريمة والعار. أتمنى أن تنتبه لخطواتك القادمة، وتعالج نفسك بنفسك، فالحياة يا صديقي تقف عاجزةً أمام من يُهوّنها علينا ويسندنا، احتضنته وفي قلبي حرقة لفراقه المجبر عليه، متمنيا أن نلتقي في ظروف نفسيّة بعيدة عن كلِّ هذا التوتر الذي سببتُه لعبة القمار.