بمناسبة يومها العالمي: ما المهمَّة الجديدة للفلسفة؟

ثقافة 2023/11/21
...

 محمدحسين الرفاعي

(1)
الفلسفة إنما هي علمُ الإجابة عن التساؤل [لماذا؟]. إنه علمُ تحديد الأسباب والعلل الأولى لكل شيء تقريبًا. فإذا قام التساؤل لماذا يكون الشيء على هذا النحو؟ وكيف يمكن أن نفهمه؟ تأتي الفلسفة لكي تضع الأسس والحدود. الفلسفة إذن هي الطريق إلى السبب. الطريق الذي لم يبن بعد، في كل مرة، ومن جديد. إن بناء الطريق، أي تشييده- بمعزل عن دروب التساؤل، بدءا من مارتن هايدغر، من حيث إنها طرق غير معبَّدة بعد، أيضا- إنما هو من ذاك الحيث، وتلك الحيثيات التي تأتي بسلاسل سببيَّة- تاريخية- وبنيوية في كل الأحايين.
(2)
بَيْدَ أنَّ الفلسفة لا تنفصل عن الواقع، بل إنَّها متورِّطةٌ بالتساؤل عنه؛ ولو بعدَ حينٍ.
إنَّ الـ[متى؟] هذه التي من شأن التَّساؤل عن الشيء، هي التي تُحدِّد للفلسفة مهمتها الفكريَّة بعامَّةٍ.
إنَّه الزمان، والتاريخ، والتاريخاني.
إنَّ تأريخ التاريخاني إنَّما هو ضربُ تساؤل عن التفلسف من جهة حقول الفلسفة الستة.
أي الميتافيزيقا، والإبستيمولوجيا، واللوجيكا، والإثيقا، والبولتيكا، وأخيرًا الإسثِتيكا.
على ذلك، لا يأتي الواقع إلى الفلسفة، ولا يقدِّمُ نفسه كما هو؛ أي كما أرد له إدموند هوسرل، بل إنَّه يحتجب بوصفه سلبًا في أغلب الأحايين.
إنَّ الفلسفة تذهب؛ فإنها تذهب، في كُلِّ مَرَّةٍ، إلى الواقعيِّ من جهة كونه لا يمكن أن يُمسك به، وسطَ فوضى الواقعانية.
أي في خضم تفصيلاته الكثيرة التي لا تحدُّها حدودٌ واقعيَّة واضحة.
(3)
إنَّ تورُّطًا بتساؤل الواقع من ذاك الجنس من التورُّط بالتساؤل عن الذَّات، إنَّما هو أوَّلُ التفلسف في المعنى الحديث.
أي بدءًا من ولوج السياسيِّ في كل شيءٍ تقريبًا.
إذن لا حرجَ في أن تقول الفلسفةُ أنني لا أعرف؛ أي لم أصل بعد إلى السبب.
كذلك، لا يُحرج الفيلسوف إنْ هو بقيَ صامتًا من شدَّة ضجيج الواقعيِّ الذي لم يأتِ إلى مستوى وعيه بعد؛ أي لم يُصبح واقعانيَّاً بعدُ.
لكن، هل يمكن للفلسفة أن تبقى ساكنة، منفصلةً عن الواقع؟
نعم، إذا هي أرادت أن تُصبح سياسةً.
إنَّ اِنفصال التفكير الفلسفي عن الواقع إنَّما هو إمَّا يقع ضمن تسييس المعرفة الفلسفيَّة، وإمَّا إنَّه يقع في الجُبن النَّظري المتعلق بالتصريح.
أي أن تُصرِّح عن كونها هنا؛ ههنا بالقرب من الواقع.

(4)
ولكن أين ومتى يمكن أن نمسك بالواقع؟
وكيف تلعب الآيديولوجيا دورَها الأساسي في حجب الواقع، من جهة أولى، وفبركته وتزييفه، من جهة ثانية، وإلغائه، من جهة ثالثة؟
في الحقيقة، لا يمكن وعي ذلك إلاَّ بعد وعي نظرية الواقع الجديدة؛ بعدَ «أطروحة موت الواقع» لجان بودريار، أي الواقع ما بعد الثورة السايبرانية في التواصل والإعلام.
أي الثورة في مفهوم الواقع نفسه.
إنَّ الواقعَ إنَّما هو لا يَقع علينا بقدر ما هو يُقال.
إنَّ ما يقع من الواقع هو يأتي إلى مستوى الوعي به عَبرَ ما يقع منه في القول.
ولهذا، يتضمَّنُ مفهوم الواقع الحديث معنى تصنيفه ضمن مفاهيم خمسة على أقل تقدير.
1 - مفهوم الواقع المُضاف أي الواقع الذي تم تقديمه عَبرَ ما ليس يُقدِّم نفسه بنفسه؛ ومن خلال جملة عمليات التضخيم التي بدورها تحدث بتوسُّط الهُويَّات والأيديولوجيات المختلفة.
2 - مفهوم الواقع المُفرط إنَّه الواقع الذي ينسحب من أجل واقع تمت صياغته على نحو كثافة الزيف والفبركة.
3 - مفهوم الواقع الاِفتراضي إنَّه صورة عن الواقع تأتي إلى مستوى الاِفتراضات والتصورات الأوَّلِيَّة عنه.
الواقع الاِفتراضي هو دائماً قَبْلِيَّاً شيءٌ من الواقع، على هذا النحو أو ذاك.
4 - مفهوم الواقع الناقص، إنَّما هو الواقع وقد تم تحديده على نحو قَصدي، ضمن حدود نظرية، لا- واقعيَّة، تحجب كُليَّتِهِ.
5 - مفهوم الواقع الواقعيّ المحسوس، الذي يُؤخَذُ به ضمن التَّساؤل الفلسفي- العلميّ الحديث في علوم المجتمع والإنسان.
إنَّه الواقع الذي يفهمه الاِستقراء الناقص، بدءًا من فرانسيس بيكون، وكارل بوبر.

(5)
ولكن ما علاقة ذلك بكل الأحداث الأخيرة في فلسطين بعامَّةٍ، وغزة بخاصَّةٍ؟
وكيف يمكن أن نفهم المهمة الحديثة للفلسفة عَبرها؟  
في الحقيقة، نحن أمام أيديولوجيا مهيمنة على الإعلام والوعي، تُقدِّمُ الواقعيَّ، ضمن ضروب تشويه تحددها هي؛ أي اِنطلاقًا من مصالحها العالَميَّة، ومصالحها العالَميَّة فحسبُ.
وحتى نكون قادرين على فهم الواقع، وبناء الوعي بالعلاقة معه من جديد، ينبغي أن نتوقف عند مراجعة المفاهيم الأساسيَّة للحداثة، وما بعد الحداثة، مرةً أخرى، ومن جديد على نحو جذري.
إنَّ المهمة الأصليَّة التي من شأن الفلسفة الجديدة إنَّما هي تتمثَّل، وفقًا لذلك، في تفكيك الآيديولوجيا الصهيونية، وضروب التزييف والفبركة والتشويه فيها، أوَّلاً وقبل كل شيء.
إنَّه العالَم الجديد كُلِّيَّاً الذي لا نعرف عنه شيئًا إلاَّ ما تقوله تلك الأيديولوجيا.
وهكذا، فإنَّ تفكيك هذه الأيديولوجيا إنَّما هو أوَّلُ وعي الواقعيِّ من جديد.