مشكلة الآخر في {نقد المركزيَّة حدث الآخر}

ثقافة 2023/11/21
...

  سامي الطلاق

تشكل مشكلة الآخر، جوهراً فلسفيّاً عميقاً. حيث علاقاتنا بآخرين {أشياء، أفراد، كائنات..} وبالتالي ماذا  يترتب على هذه العلاقة {المرتبطة} إن كانت {آخرية الآخر} حقيقة؟ {فيمثل وجود الآخرين في الواقع قلقا دائما}.
ويأخذ هذا الكتاب على عاتقه مهمة هذا الحفر "المعرفي" المتأمّل اليقِظ اتجاه أدب وفلسفة الإغريق، وصولا للحاضر ولحظة الكاتبة نفسها.
اتكاءً على عدّةِ علاماتٍ تاريخيّة "التضحية- المطلق- العقلانية" هذه المواضيع الكبرى ما بين التاريخ الديني " مثالا تضحية إبراهيم بإسماعيل - تذكر الكاتبة اسحق اتكاء على الإنجيل-"، والصراع بين الميتافيزيقيين " أو أصحاب النزعة الميتافيزيقية " هيغل- كانط - كيركغارد" مقابل أصحاب النزعة الإنسانية "نيتشه مثالا".
تصلُ الكاتبةُ بتأمُّلاتِها "هي تذكر أن الكتاب تأملات"، إلى نتيجتِها التي تُفضي بأنّ الآخرَ من جهة النظر الميتافيزيقية المثالية أو- الهيغلية- للحصر، لن تصل للفرد الواحد دون العلاقة مع فردٍ آخر، الاّ عبر" شلَليةٍ جمعية" أو تنظيرٍ مفرِط في التعالي والمطلق، "فكيف نصل لفهم الفرد عن طريقة الجماعة لا العكس؟".
 بل حتى الرجوع للإغريق "أرسطو هنا مثالا" لم يقدِر الا عنصرَةَ الجنسِ، حيث تنقلُ عنه الكاتبة "الانزياح الأول هو ولادة الأنثى عوضاً عن الذكر" ص138، حيث  النسخة/ الفرد الإنسانيّ التي تعني بُعداً عن الأصل الإنساني بواقعٍ مختلفٍ تماماً، ما هيَ الّا إزياحٌ- انحرافٌ ما- عن الطبيعة الأصل. ولا مجال الا بالتعامل مع النسخة الحاضرة لدينا، وترك ما غاب عنا في غياهب التاريخ والوعي الإنساني.
وهنا تقف "سيليفان آغاسانسكي" موقفا ظاهراتياً واضحا إزاء كل ما وراء الطبيعة، بل ما وراء التاريخ والوعي الإنساني.
ويحضُر " الآخر" دوما في فصول الكتاب رغم صغر حجمه، الاّ انّهُ يحاول الحفر عميقا ما بين الأساطير والأدب والفلسفة والدين كجهات مقدّمة للحقيقة بأشكالٍ مختلفة.
وما يميّز الطرح بالكتاب، هي رائحة السيَريّة في سطورهِ لدى سليفيان، حيث تكتب ص 103 " ما أزال مسحورةً بما سمّاه جوهانس سيلانسيو السمة الراقية لتضحيةِ إبراهيم". فهي ناعمة الكتابة هنا اتجاه الموروث " الإنجيلي" مع عدم اتفاقها لاحقا بسردية "المثال والمطلق والمتعالي" كونهما خارج الظاهر العقلاني "لنا نحن كبشر" كما تعتقد آغاسانسكي فتناقش هذا الطرح "مقاربتي فما هو موضعُ سؤالٍ بالنسبة اليّ، ويقوم تحت هذا الحافز السامي، هو بالأحرى تمثيل الفكر الذي يعتقِدُ بأنه نحوٍ من الأنحاءِ يليقُ بالمطلق، أو بأنهُ
يتألّم من كونهِ لا يليقُ به" ص 104.
وهنا تتأرجحُ الكاتبة بين الوجودية وعدم إمكانية عقولنا ادراك الواقع الخارجيّ تماما، لكننا نتماهى معه فقط؟ فعلاقة الله- الرب بإبراهيم كانت "علاقة سرية بالضرورة" ص.121 أي تفقد الوسيط وعلاقة من غير توسُّط؟ هذا التوسط هي ما يشكل لنا ظاهرة/ باطنة في سرديتها. بل حتى حقيقة وجودنا "الأفلاطوني" مشكوكٌ فيه وغير عادل، كما "تحب سيليفيان كتابات ونصوص كيركغارد- الذي اتهم هيغل بالضلال" كما يبدو ونتلّمس كتابتها حوله بخصوص موضوعنا وطرح الكتاب." حيث حافز الذنب المأساوي ايحاء "للخطيئة الأولى" بالكتب المقدسة. مقابل أيضا الحب وقيَمهُ " بشكلهِ وتوقهُ نحو المطلق.. الذي لا  تستطيع الذات العاقلة أن تفكّر فيه أبدا" ص7. فهل "المطلق" يستحيل أن يفكّر فيه خلال العقل الظاهراتي؟ أم أن الكاتبة أيضا تزيح بدورها الحسّ والحدس كأدوات ضمن اشتغال الفيلسوف "ديكارت مثالاً" ؟. الا اذا اختزلنا الرؤية نحو "برتراند راسل- فتجنشتاين" وتيّار العقلانية المحض.
وبحقيقةِ الأمر تطرح -آغاسانسكي- مشكلة عميقة وهيَ مشكلة الفلسفة واستقلالِها. حيث طرح العقل كفكرٍ لغويّ أو طرحه ميتافيزيقاً حيث تناهض الكاتبة ذلك، وتراه "غير مفكّر فيه" ومما يسبب ألم الفرد "التوق للمطلق عبر المثال والنزعة المتعالية".
ومما أخذه من تفقَد ديكارت "حول أن العقل المفكِّر والمفكَّر فيه معا يقعان في التناقُض  والجوانية ولن يسمع الاّ صوته، مهمِلاً الآخر "الآخرون" حتى لو أثبت وجوده الذاتي لن توجد علائقية بحقيقة وجود الآخر بفكره.
تضعُ – سيليفيان- طروحات "الميتافيزيقيين" بعقلها الواعي حين تكتب هنا، فهي تمرُّ دوما على أخلاق كانط  ويجب أن منذ أرسطو، حيث من "المتناقِض" هنا- كما تجدهُ آغاسنسكي- مع ديكارت بالذات، حيث يحضر الآخر لدى كانط قبل " الأنا"..( يسبقُ تأكيد الذات العاقلة تفكيرها بالآخر، ويحدِّد علاقتها معه". حيث تكتب بتقانة لطيفة دون احتقارِ فكرة ما، ولا خلل حشوي أو مما يشتّت قارءها، الذي يحتاج "ثقلا" معرفياً فلسفيا وأدبيا معاً.
وهذا المشي التي تريد به- تطمح به- سيليفان أن تحطّم وهم ميتافيزيقا العقل بإزميل نيتشه حيث تميل كما يفهم القارئ منها مع أطروحة "ابداع القيَم" لا الحفر الماورائي والأنثروبولوجيّ. فالثقافات التي تخلط الظواهر بالميتافيزيقا لن تصل لإنسان "هيغل المطلق" و "انسان أخلاق كانط" ولا "عقل ديكارت المهمِل للآخر بفلسفته".
إذًا نحن أمام مشكلة أساسية في الفكر "الفكر والإدراك" "فهل يصحُّ ادراك الفكر نفسهُ بنفسهِ!" ص 9 كما هو طرح المركزية الميتافيزيقة. وناتج ذلك النظر للآخر " كحدَث" أو " كواجِب أخلاقي".
هذا الطريق غير المعبّد – بعثرات عدة فكرية- تسلكهُ الكاتبة بفكرٍ وقراءات واسعة. فهل ينتج التعليم من حيث التغذية بالمطلق والمثال، نزوعا حذراً تجاه الآخر؟ مما يتشارَك الطرح هنا بين عدة أطرافٍ فكرية، تسلك الكاتبة طريق "اللاميتافيزيقا" مع لذة السرديات الكبرى بها "منذ ادم وإبراهيم وموسى".
لكن الآخر ليس إلا نفسي؟ " انه ما يبعدني عني ويمنعني من كلّ اكتفاءٍ ذاتي".ص 10. وكيف لا يرتاح المرء في نفسه؟ وكيف يحقّق العلاقة الواقعية بينه والآخرين؟ بدون مطلق أو واجبٍ الا ما هو معقلَن واقعا، لا متعاليا يسبب آلامنا جميعا اتجاه بعضنا، حيث نعيش بإمكانية الخطأ –الذنب - الطبعيّة فينا؟ إن لم تكن خطيئة كبرى موروثة بتاريخنا الفكري المشترك؟.