محمد هدلا.. معمار الرمل

ثقافة 2023/11/22
...

  هويدا محمد مصطفى


تتنوع أعمال الفنان التشكيليّ محمد هدلا ما بين المناظر البحريّة والمرأة والزهور والبنى المعمارية القديمة، فحين نتأمل لوحاته التي تبدو انفعالاتها اللونية في حدود إطارها الجغرافي، سرعان ما نجد العناصر التعبيريّة بحساسياتها المختلفة وبأنوارها وأضوائها.

ترعرع محمد هدلا بين أحياء طرطوس، وتآلف مع شاطئ البحر وأبنيتها القديمة، وعشق أجواء القوارب الخشبية التقليدية، وقدم في معارضه الجماعيّة والفردية، مجموعة واسعة من لوحات برزت شغفه اللامحدود بكل ما هو حميمي في مدينته، مدينة الأحلام والتخيلات. 

تميزت فتيات أعماله بمسحة تعبيريَّة اختزاليّة، عكست نوعاً من العفوية في خطوات التعبير عن جدلية العلاقة المتواصلة بين المرأة والبحر والزهور والعمارة الرملية القديمة  .فالفنان ينتمي بكل أحاسيسه ومشاعره وتطلعاته وثقافته إلى أضواء وأنوار وألوان البحر والسماء، وكل ما تقع عليه عيناه من مؤثرات حميميَّة رافقته منذ أيام طفولته في أحياء قديمة مبنية بالحجر الرملي البحري. وتفيد الاشارة إلى أنّ مراكب طرطوس لها تقاليدها المتوارثة وطابعها السحري الخاص، ويتم تصنيعها في جزيرة ارواد وهي متميزة بألوانها وأشكالها، ولا يوجد ما يماثلها في أية منطقة ساحلية في العالم، ولقد تركت تأثيرات واضحة على لوحاته، رغم ابتعاده عن أسلوب الرسم الواقعي، ووصوله في أحيان كثيرة إلى أقصى حدود العفوية المطلوبة في أعمال فنية حديثة ومعاصرة  .

فمنذ بدايته كان يؤكد عشقه لأنوار وأضواء وألوان الخط الأفقي لمنظور العالم البحري، ولوحاته تشكل دعوة جماليَّة لرؤية إشراقة وجمالية ورومانسية ألوان العالم البحري المتوسطي، ولهذا نتوقف طويلاً أمام لونيته المستمدة من تأملات المدى والأفق والمركب والقباب والأقواس والأبواب والنوافذ والجدران القديمة المكشوفة على الشمس، وصولاً إلى تلك المستمدة من معايشة ألوان الشتاء والخريف، فالمناخ اللوني الطبيعي بتغيراته وانتقالاته له تأثيرات مباشرة على تكوين لوحاته التي تتآلف مع عيون المتلقين وقلوبهم.

هكذا يطرح علاقات تشكيلية خاصة، تثير المزيد من النقاش والجدال والسجال، فالإشارات والمشاهد والرموز البحرية تتداخل في اللوحة الواحدة، وتقدم علاقات تنساب بحرية وعفوية، تمكنه من ابتكار نسيج بصري حركي يتخطى الرؤية الواقعية التقليدية، ويفتح أمدية داخل مساحة لوحة تختزل الأشكال الواقعيّة وتبرز مشاعره الانفعالية، حيث يغلب الطابع التعبيري على الناحية التصويرية التسجيلية .

وترتكز أعماله على الرسم بألوان الأكريليك والزيت على سطوح الخشب والرمل البحري، وهي تعطي فكرة موجزة عن آخر ما توصلت إليها تجربته المتفاوتة من الناحية الأسلوبية، ما بين الواقعية الحديثة والصياغة التعبيرية، الغارقة في إيماءات اللون الأزرق لمدى وأفق البحر. بينما المرأة لديه تأخذ شكل الحلم الأنثوي الجذاب، والمتابع للوحاته التي يجسد فيها المرأة أو مجموعة النساء، لابد أن يشعر بالانسداد إلى جماليّة الشكل الخارجي ومكامن الأنوثة، إذ تبدو المرأة على درجة عالية من الفتنة والجاذبية، ولكن رغم اهتمام هدلا بجماليات شكل المرأة، إلا أنّه يعرف كيف يحرك هذا التمظهر باتجاه الصياغة التشكيليَّة الحديثة، إذ المهم في النهاية الإحساس الذاتي بهذا الشكل، ونقل مشاعره الداخلية من خلال الموضوع المحبب إليه (موضوع المرأة).

ورغم اقترابه أحياناً من عوالم الرسم الواقعي، إلا أنّه كان ولا يزال يعمل على إظهار خصوصيات بحثه التشكيليّ، ويضفي على لوحاته المزيد من الشاعرية البصرية والغنائيّة اللونية، الناتجة أحياناً عن استخدام اللمسات العفوية، لإخراجها من منزلقات الوقوع في الصياغة التسجيلية السهلة المتواجدة بكثرة في المعارض الاستهلاكية. 

هدلا يمتلك القدرة على الاختزال في تكويناته التعبيريّة والرمزيّة، ضمن معطيات المناخية المشرقية، مع منح أهمية للجوانب التشكيليّة الحديثة، كجماليات اللون السائل من أعلى اللوحة إلى أسفلها، غاية في اكتشاف حساسيات بصرية مختلفة ومتفاوتة.‏