لا علمَ بلا فلسفة

ثقافة 2023/11/22
...

  د. عبد الجبار الرفاعي

  تعلمُ الفلسفةِ تعلمُ التساؤلِ، وتعميقُ الأسئلة الكبرى، وتوالد الأسئلة على الدوام من الإجابات. التفلسف لا ينتهي ولن يتوقفَ مادام الإنسان يندهش ويفكر ويتساءل ويشكك ‏ويتأمل ويناقش ويتحاور ويختلف ويتنافس ويتصارع. التفلسف وعيٌ عقلي تأملي عميق، لا يجيده كل عقل، يحتاج التفلسف عقلا ذكيًا فطنًا مندهشًا متسائلا. الموهبة لا تكفي وحدَها للتفلسف، يتطلب التفلسف إنفاقَ سنوات طويلة في التعلّم وترويضِ الذهن وتدريبِه على التفكير المتريث، والتشكيك ومساءلة المسلمات وغربلتها، وتمحيصِ ما تسالم الناسُ على أنه من البداهات، كما يحتاج كل علم ومعرفة وفن إلى التعلم والتفكير والمران المتواصل.

  لم يولد العلمُ إلا ‏في أحضان الفلسفة، تظلّ الفلسفةُ تواكبُ العلم، تتغذّى بأسئلته الحائرة ومشكلاتِه وأزماته خارجَ حدود المادة والتجربة، وترفده وتغذّيه بالأجوبة والحلول والرؤية لما تنتجه تطوراتُه من تساؤلاتٍ، ومشاكلَ معقدة، وأزماتٍ روحية وأخلاقية ونفسية وعقلية، سواء أكانت هذه المشكلات والأزمات فرديةً أم مجتمعية. لن يكتفي العلمُ بذاته ويستغنى عن الفلسفة، مهما بلغ تقدّمُه وتنوعت وتراكمت نتائجُه.كانت الفلسفةُ وستبقى تتفاعل مع النظريات العلمية والاكتشافات تؤثر وتتأثر فيها. تستجيبُ الفلسفة لما يستجدّ من اكتشافات في الفلك والفيزياء والأحياء وغيرهما من العلوم، فقد كان لعلم الفلك الحديث الذي بدأ مع كوبرنيكوس (1473 – 1543) ونظريتِه في مركزية الشمس ودوران الأرض والأجرام الأخرى في المجموعة الشمسيّة حولها، أثرٌ مباشرٌ على التفكير الفلسفي والميتافيزيقي في أوروبا من بعده. وهكذا تأثّر هذا التفكير بقوانين الحركة والجاذبية العامة في فيزياء نيوتن (1642 – 1727)، كما تأثَّر لاحقًا بفيزياء الكوانتم لماكس بلانك (1858 – 1947)، ونظرية النسبية لأينشتاين (1879 – 1955)، وقبل ذلك تأثر بنظرية التطور لتشارلز داروين (1809 – 1882).

 الوعي الفلسفي هو الذي شكّل العقلَ الحديث، مع فرنسيس بيكون وديكارت وكانط وغيرهم من الفلاسفة توالد هذا العقلُ وتشكّل، فكان عاملًا أساسيًا بوضع التاريخ البشري في مسار جديد، غادر فيه حالتَه الرتيبة التكرارية الطويلة، بعد أن لبثت البشريةُ آلاف السنين لم تحقّق المكاسبَ العلمية من الاكتشافات والاختراعات والتكنولوجيات المنجزَة في القرون الثلاثة الأخيرة، وتحول فيها الإنسانُ من الآلات اليدوية إلى المحركات الحديثة، ومن وسائل النقل البدائية إلى القطار والسيارة والطائرة ووسائل النقل المتطورة. وهكذا تواصلت هذه المكاسبُ بقفزات على شكل منعطفات، حتى وصلنا إلى هندسة الجينات، وتكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي والروبوتات.

  إيقاعُ التقدّم المتسارع للذكاء الاصطناعي والروبوتات، والهندسة الجينية، وتكنولوجيا النانو، وتكنولوجيات متعدّدة تتحدث لغةَ الذكاء الاصطناعي وبرمجياته، يخلقُ طورًا وجوديًا بديلًا تعيد تكوينَه الأنماطُ المختلفة لصلاتِ الإنسان بالأشياء، وصلاتِ الإنسان بالكائنات الحيّة المتنوعة في الطبيعة، وصلاتِ الإنسان بالإنسان. ينتجُ التقدّمُ المتسارِع حالةَ لايقين شاملة، تطول: القيمَ، والمعتقدات، والثقافات، والاقتصادات، والنظم السياسية، والسياسات المحلية والإقليمية، والعلاقات الدولية، والعلاقات الاجتماعية، وكلَّ شيء في حاضر الإنسان ومستقبله. كلّما تضخّم اللايقينُ واتسعت مدياتُه اتسعَت الحاجةُ لحضورٍ فاعلٍ للعقل الفلسفي. الأسئلةُ الوجودية الكبرى، وأزماتُ العقل والروح ليست من اختصاص العلم، ولا تقع في فضاء المادة والتجربة. 

التشديدُ على العلم، واختزالُ العقل والمعقولات والتفكير بحدوده، يجهضُ العقلَ الفلسفي، وينتهي إلى افتقار العلم إلى إجاباتٍ لأسئلته الحائرة ومشكلاته العويصة، وكلِّ ما لا يجد له حلًا في فضائه وسياقاته. تختنق المعرفةُ حين توضع في فضاء ما يخضع لحدود العلم الطبيعي ومجاله الحسي خاصة، وحين تعتمد مقاييسَه وأدواته التجريبية ووسائله ومنطقه ولغته وأحكامه. تلك هي الأدلجة التي يتحول فيها العلمُ إلى «أيديولوجيا علموية» تعطّل العقلَ الفلسفي.

 علاقةُ الفلسفة باللاهوت ديناميكية، فمثلما يتغذّى ويتجدّدُ اللاهوت بالفلسفة تتغذّى الفلسفةُ وتتسعُ آفاقُها وتتنوّعُ حججُها بالسؤال اللاهوتي. السؤالُ اللاهوتي يبحثُ عن يقينيات لا يظفر بها مهما توالدت الأجوبةُ وتواصلت الاستدلالات. إنه سؤالٌ مفتوح، كلُّ سؤال مفتوح منجمٌ ثمين للتفلسف.كلّما ابتعدَ اللاهوتُ عن الفلسفة وقعَ فريسةَ اللامعقول، ودخل حالةَ سبات يتعطل فيها العقل، وتتغول الأوهام. لا يضعُ اللاهوتَ في حدوده ويمنع تغوّل الأوهام إلا الفلسفة، ولا يتجدّدُ اللاهوتُ إلا عندما يعيدُ النظرَ في الحقيقة الدينية ويتأملُها بعيون فلسفية.

‏  التفكيرُ الفلسفي على الضدّ من الاعتقاد النهائي المغلق. التفكيرُ الفلسفي متحرّرٌ من الحدود والقيود والشروط والأسوار المغلقة. من المشكلاتِ العميقة للتفلسف التفكيرُ بالفلسفة ضدّ الفلسفة: عبر توظيف إجابات التصوف في الفلسفة، وتوظيف إجابات اللاهوت في الفلسفة، وتوظيف إجابات الفقه في الفلسفة، وتوظيف إجابات العلم في الفلسفة. حدود العلم الطبيعي وحقله هو كلُّ شيء في الطبيعة والكون المادي، الفلسفة لا حدودَ لها، بوصفها فعلَ تفكير عقلي يتجاوز الظواهر للبحث في حقيقة العلم وماهية كلّ ظاهرة.

 يتفشى اليوم في الفكر العربي التفكيرُ في فلسفة الدين بعقلٍ كلامي وفقهي، كما نقرأ لدى مَن يفكرون في التعدّدية الدينية بعقل متكلم، أو يفكرون في مشكلة الشرّ بمنطق أصول الفقه وأدوات الفقيه وفتاواه.كذلك يتسيّد في الفكر العربي تفكيرٌ لاهوتي يكتب الفلسفةَ بمنطقِ علم الكلام وأدواته ومقولاته، وذوقٌ صوفي يكتب الفلسفةَ بمنطق التصوف ومكاشفاته. صارت هذه صنعةً لجماعة من المفكرين العرب الذين صنعوا لهم أسماء كبيرة، خاصة لدى شباب نفروا من تبسيط أدبيات الجماعات الدينية، واحتلت كتاباتُ هؤلاء مواقعَ متقدّمة في الجامعات والدراسات العليا، على الرغم من أنهم يفكرون بعقلٍ كلامي وفقهي، ويصدرون فتاوى فقهية حول ‏التفكير الفلسفي، ‏ويتسلحون بمقولات المتكلمين ‏في مناهضة الفلسفة. ‏هؤلاء يتكلمون بلغة تحاكي لغةَ الفلسفة إلا أنهم ضدّ الفلسفة.

 أحيانًا نرى إنسانًا عبقريًّا في منطقةٍ يقظة من عقله، وعلى الضدِّ من ذلك في منطقةٍ نائمة من عقله. تدهشك قدرتُه على توظيف المغالطاتِ المنطقية لعقله اليقظ للاستدلال على أوهام عقله النائم. المراوغاتُ الذهنية والثغراتُ المنطقية في تفكير العباقرة تفسيرُها يتطلب الانتباهَ لوجود هذه الحالة الذهنية. ذلك ما يجعل هؤلاء يبدأون بمقدماتٍ عقلية وينتهون بنتائجَ غير معقولة. يتراجعُ العقل وينزاح بالتدريج أحيانًا، بعد أن يتسعَ ما هو نائم ويعطل ما هو يقظ.

 العقلُ الفلسفيُّ عقلٌ كوني، عابرٌ للهويات الإثنيّة والأيديولوجيَّة والعقائدية والدينية. قراءةُ الفلسفة بأفقٍ أيديولوجي تنتجُ أيديولوجيا، قراءةُ الفلسفة بأفقٍ لاهوتي تنتجُ لاهوتًا، قراءةُ الفلسفة بأفقٍ كلامي تنتجُ علمَ كلام، قراءةُ الفلسفة بأفقٍ اعتقادي تنتجُ عقيدة، قراءةُ الفلسفة بأفقٍ فقهي تنتجُ فقهًا، حتى قراءة الفلسفة بأفق العلم الطبيعي ينتج علمًا. لا ينتج الفلسفةَ إلا التفكيرُ الفلسفي، وقراءةُ الفلسفة بأفقٍ فلسفي. أتحدثُ عن التحيزات الواعية، وهي أن يفكرَ الإنسانُ في آفاق الهويات والمعتقدات والأيديولوجيات وحدودها المغلقة، ولا أعني التحيزاتِ اللاواعية المترسبة في البنية اللاشعورية العميقة، لأن التحرّرَ من تأثيرها الكامل متعذرٌ غالبًا. 

  الفيلسوف ينشغل بالتفلسف، ويفكّر تفكيرًا عميقًا بالأسئلة الوجودية، يبدأ بمقدمات فلسفية ومنطقية وينتهي بنتائج فلسفية ومنطقية. الفيلسوف حين يتفلسف يقدّم تفسيرًا يتجاوز سطحَ الأشياء والظواهر ويبحث في حقيقتها. الفيلسوف يحاول أن يفسّر حقيقةَ العلم وماهيته. الفيزياء والكيمياء والعلوم تنشغل باكتشاف قوانين الطبيعة ومعادلاتها، ولا تعرف حقيقةَ العلم وماهيته. الفيلسوف يحاول أن يجيب عن سؤال المبدأ والمصير، وسؤال الحياة، وسؤال الموت، وغيرهما من الأسئلة الوجودية الكبرى، أي الأسئلة خارج حقل العلم بالمعنى التجريبي. لا نهاية للتفلسف، يظلّ الإنسانُ يتفلسف مادامت الحياةُ والموت، والأسئلة الوجودية التي لا تجيب عنها العلوم. ‏‏العلم غير الميتافيزيقا، كلُّ سؤال وجواب ميتافيزيقي بالإثبات أو النفي هو تفلسف خارج حقل العلم. عندما يقدّم أحدُ علماء الطبيعية أجوبةً للأسئلة الوجودية الكبرى، ينتقل تفكيرُه من حقل العلم إلى حقل التفلسف في هذه الأسئلة.

‏‏ إصداراتُ الكتب والدوريات التي تحملُ عناوينَ فلسفية لا أقرأ فيها غالبًا رؤيةً فلسفية، ولا أرى أكثرَها تتحدثُ لغةَ الفلسفة. صارت الفلسفةُ لافتةً يختفي وراءها جماعةٌ من المولعين بالشهرة، يراكمون عنواناتٍ بلا مضمون فلسفي، ويكتبون موضوعاتٍ عويصةً وهم عاجزون عن التفلسف وخلق الأسئلة الفلسفية، تتكدّسُ في كتاباتهم كلماتٌ تتخبّطُ في دلالتها ولا تفصحُ عن وجهتها، لا تقرأ فيها ما يشي بشيءٍ يصنَّفُ على الفلسفة. في أقسام الفلسفة بجامعاتنا قلّما نجدُ أستاذًا يتفلسف خارج النصِّ الذي يقرّرُه لتلامذته، مَنْ يعجز عن التفلسف يعجز عن تعليم الفلسفة، التفلسفُ غايةُ تعليم كلّ فلسفةٍ تنشدُ لنفسها إيقاظَ العقل.

  صارت الكتابةُ والحديث في الفلسفة موضة، يمارسها حكواتيون من دون أيّ تأهيل أكاديمي، ولا قراءات معمّقة للتراث الفلسفي والفلسفة الحديثة. لستُ ضدّ تبسيط الفلسفة وتيسيرها للقراء، غير أن لغةَ الكتابة يفرضها نوعُ مفاهيمها، وغايةُ تفهيمها. تبسيطُ المعارف والعلوم الذي يتولاه خبراء في كلِّ حقل ضرورةٌ لفهمها وتنمية الوعي المجتمعي. ‏التدريس مثلا ضربٌ من التبسيط، إشاعةُ المعرفة تتطلب تبسيطًا يتولاه المتخصِّصُ في كلِّ حقل معرفي. تبسيطُ غير المتخصِّص لأيّ علم ومعرفة يزيّفها. 

  ‏الفلسفة تخصصٌ عميق يتطلب إنسانًا ذكيًا مثابرًا صبورًا، يمكث سنوات طويلة في دراستها الجادة، ويواصل المطالعات المكثفة في مختلف الحقول، ولا يتوقف عن التفكير والتأمل الصبور والتفكير النقدي كلّ حياته. أتحدث عن الذي يكتب في الفلسفة أوهامًا لا صلةَ لها بالفلسفة، يكتب وهو لم يدرس يومًا واحدًا في حياته فلسفة، ولم يتعمّق بمطالعة النصوص الفلسفية. أعرف بعضَ الأشخاص لم يقرأوا التراث، ولم يتعلموا في أية مؤسّسة تعليم قديم أو حديث، ولم يحصلوا على أية شهادة جامعية، يضعون قبل أسمائهم لقب «دكتور»، ويسوقون كتاباتهم البائسة تحت هذه اللافتة. 

(بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة)