رولا حسن
من غير المعروف أو المؤكد متى ظهر الفنانون الفطريون أول مرة ،إذ أنه ومنذ بداية تاريخ الفن حتى اليوم، ابتكر هؤلاء الفنانون أعمالاً لا نزال نعجب بها، وتدغدغ في داخلنا مشاعر غريبة ربما تمتد بعيداً إلى طفولتنا إلى زمن النقاء والبراءة والصفاء .إلا أن الخبراء يقولون إن مصطلح الفن الفطري نشأ في العام 1885عندما أصبح الفنان بول سينياك على دراية بمواهب هنري روسو .
امتاز الفن الفطري ببساطة التنفيذ وعدم التعقيد وبسبب ذلك عدَّه الحداثيون تمثيلاً غير دقيق لفن أنشأ داخل ضوابط تقليدية .امتازت الأعمال الفطرية بالاهتمام بالتفاصيل كما أن هناك ميلاً لاستخدام الألوان المشبعة اللامعة بدلاً من خلط الألوان، كما يلاحظ غياب المنظور في أغلب هذه الأعمال .
ومع ظهور الحداثة في فنون مطلع القرن العشرين ،ظهرت نزعة تستلهم فنون المناطق البكر والنائية في العالم ويمجد بدائيتها وفطريتها وثقافتها حتى أنها استلهمت من قبل الفنانين الأكثر تجديداً وجموحاً.
الطيب العياط فنان تونسي ينتمي بقوة إلى تلك المدرسة ، تعلم الفن على يد أساتذة كبار أمثال عبد الرزاق الساحلي والكبير الهادي ،ومن ثم تابع دراسة الفن في مدينة همبورغ الألمانية .
في لوحات العياط تظهر المرأة الأمازيغية بكثرة وكأنها محور العالم شمسه وقمره ،يمجِّدها محولاً إياها إلى زمان ومكان غير محددين فتبدو مختالة بشعرها الطويل وعينيها الواسعتين، وكأنهما دلالة على القدرة على رؤية العالم والتبصُّر به، تحاط هذه المرأة برموز الطبيعة، الأشجار، والعصافير حتى أنها في أحدى اللوحات تبدو قدميها الأرض ذاتها في إيحاء واضح إلى الأمومة التي يتوالد منها العالم ، وإلى مجتمعاتنا المتجذِّرة في أموميتها .
الوالدة الخزافة
يتحدث العياط عن والدته الأمازيغية باعتبارها فنانة وخزَّافة ألهمته الكثير فقد فتح عينيه، وهي تصنع من الخزف أجمل اللوحات ببساطة شديدة كبساطة الحياة التي تعيشها، بيديها السمر تحول العالم إلى قطعة جميلة وساحرة من الخزف ،الأمر الذي حفر عميقاً في ذاكرة الطفل الصغير وأشعل في قلبه حب الألوان وفن التشكيل .
حكايات والدته ،أسرارها ،وتفاصيلها كانت الدافع الحقيقي وراء هذا الفن الزاخر بصور النساء و وجوههن المضاءة بالحب والطيبة والسكينة على اختلاف حالاتها، وكأنهن صور متعددة لامرأة واحدة .
يستخدم العياط ألواناً واضحة تتكرر في أغلب لوحاته الأحمر (لون الحناء) الذي يتكرر بشدة في أغلب اللوحات ،الأخضر ، والبنفسجي والأسود ،والأصفر ،وتجدر الإشارة هنا إلى الدور الذي تلعبه الألوان في الفنون البصرية فهي موظَّفة بشكل دقيق ، ولها معانيها الدينية، والروحية، والطقسية وتختلف وظيفة هذه الألوان من مكان إلى آخر، وربما يتفق ذلك مع ما تستخدمه الشعوب التقليدية من ألوان صارخة .
لذا فإن اللون الأحمر هو اللون المفضل غالباً بكل تدرجاته إلى جانب الأبيض والأسود في أغلب الأعمال الفنية .وإن هذه الألوان الثلاثة لها معنى طقسي مقدس أما الألوان الأخرى كالأخضر والأزرق فلم يكن لها ذات أهمية في الفنون، وقد جاء استعمالها مؤخراً ،وذلك بتأثير الاتصال الحضاري مع الحضارات الأخرى عن طريق التقليد أو المحاكاة .
منذ التسعينات إلى منتصف الألفية عكف العياط إلى استخدام الرمل والحبال في رسم لوحاته حيث يقوم بداية بمزج الرمل مع الألوان ومن ثم يبدأ تشكيل اللوحة ، أما الحبال فيستخدمها لتحديد تفاصيل معينة في اللوحة تضيف للوحة ما قد يريد إيصاله إلى عين المتلقي . يحاول العياط التعبير عن الحالة العاطفية للإنسان الذي يخوض معارك نفسية ومادية حامية الوطيس في حياته المعاصرة ففي مجموعته التي رسمها أثناء جائحة الكورونا وقد عنونها بـ”الخروج من الجنة “عبر فيها ببساطة عن قلق الإنسان وخوفه الوجودي محولاً مشاعره الداخلية إلى ألوان تتكلم داخل اللوحة فهو يرسم ما يشعر به أكثر مما يراه وكأنه ينحو نحو الرسامين التعبيريين الذين يرسمون ما يشعرون به لا ما هو موجود على أرض الواقع بضربات فرشاة جريئة واضحة ومكثَّفة مبتعدين عن قواعد مدرسة الرسم الكلاسيكية الصارمة والمعايير النموذجية للجمال.
ينفصل العياط في لوحاته عن المراجع الفنية الصارمة والدقيقة ،ويثير بدلاً من ذلك المشاعر والأحاسيس من خلال اللون والشكل فقط ويمكن القول بتعبير آخر أنه يسعى جاهداً إلى استنطاق اللون وتحميله القول الفني برمَّته .وبناء على ذلك لا يتحتم على اللوحة دوماً أن تكون واقعية بل المهم أن تحرِّك عاطفة ما لدى المتلقِّي.
لذا تبدو الألوان هي أول ما يشدُّك في لوحات العياط ،ثم تنتبه فجأة إلى ملامح تلك الوجوه ، وإن طغت الوجوه الأنثوية على أغلب لوحاته ،وحتى حين يرسم الوجه الذكوري فإنه لا يخلو من ملامح أنثوية وكأنه يؤكد ما قاله ابن عربي :”كل ما لا يؤنَّث لا يعوَّل عليه “حتى الطبيعة حول تلك الوجوه أو في اللوحات المنفردة بكل تفاصيلها وبتلك الألوان الواضحة التي تميل إلى أنوثتها أكثر من أي شي آخر الفراشات ، الأشجار ...إلخ .لكن ما يميز تلك الوجوه هي العيون الواسعة سواء حين تفتحها أو تغمضها وكأنها تغفو على حلم إو في عناق هي تغمض على الجميل في العالم وليس عما فيه من قسوة .
يؤكد العياط في حواراته على إعجابه، وافتنانه بالفن الفطري الإفريقي “فهو عفوي وذو ألوان مبهجة ووجوه جميلة ،وهناك فنانون عالميون تأثروا به مثال على ذلك الفنان العالمي بيكاسو ،وكوني أعيش في أوروبا فإني أردت أن أعكس هذا الطابع الإفريقي الجميل بإسلوبي الخاص “ والكلام يعود له .