د. نادية هناوي
لا يصنع الخيال الواقع حسب، بل هو يضيف إليه أيضاً، والأصل في الخيال أنه وسيلة تساعد الإنسان على التكيُّف بإزاء معضلات وجودية تتفاوت في أبعادها وتأثيراتها وقد تطحن الإنسان تحت معاولها الهدَّامة فلا يكون أمامه من خيار سوى السرد انغماساً في التخييل وقبولاً بمواجهة الموضوعي بما هو فني في محاولة لكسب الزمن وجعله في صالحه، يصنع به ما يشاء.
والعلاقة بين الإنسان والخيال هي انعكاس لعلاقة الإنسان بالزمان وعلى وفقها يوجِّه الكاتب فنَّه الروائي. وما من كاتب يتفاعل مع الواقع سردياً إلا هو واقع تحت تأثير هذه العلاقة؛ فإما يخضع لضوابطها فيكون محاكياً الواقع أو لا يخضع فيكون غير محاكٍ للواقع وفي كلا الحالين يكون السرد تعبيراً عن تجربة إنسانية ما. من هنا غدت الواقعية تقليداً به يكسب الكاتب هوية أو سيرة أو عطاء، وواقعية السرد تعني تحشيده الجمالي شكلاً ومحتوى وإنتاجاً وصيرورة. فتغدو المحصلة النهائية في الظاهر عبارة عن نظام أدبي إبداعي وفي الباطن عملية انتهاج تأليفي جمالي. ولا أهمية لنص بلا نظام كما لا أهمية لسرد هو بلا هدف محدد.
ولقد سار السرد الأوروبي على خط واقعي متَّسقٍ مع خطٍّ لا واقعي مما عرفته أعمال القصاصين الأوروبيين في الحقبة الكلاسيكية وفيما بعد أخذ النهج الواقعي يزداد مقابل خفوت النهج غير الواقعي. وبالتدريج صارت الواقعية هي الأساس في تمثيل الواقع الموضوعي كتجارب إنسانية مُعاشة وتصوّرات جمالية عميقة أو متواضعة العمق.
وغدت الواقعية هي النظام والنظام هو الواقعية، وأكثر الروايات واقعية هي أكثرها استقراراً في نظامها. ولم تعد لحرية الكاتب أهمية. وأدت مناهج النقد الأدبي ونظرياته دوراً في ذلك فاختلط النظام بالبناء، وصار النظر إلى المؤلف تابعاً لنص هو المتبوع، فانعزل النص في واقعيته عن مؤلفه. بيد أن ذلك كله يبقى مجرد حكم نقدي وهو لا يعني أن المؤلف كفَّ عن التجريب بل هو يظل متحرراً ينفر من أي استقرار ومن ثم يمكنه أن يأتي بالجديد، ويصنع مما هو ثابت استثناءات واختلالات وخروقات وزحزحات وتعقيدات توصف بأنها فنية وموضوعية لكنها لن تلغي تاريخية النظام.
بهذه الطريقة جرَّبت الرواية في مرحلتها الكلاسيكية البناء على قاعدة اللاواقعية فاهتدت إلى إجناسيتها وجرَّبت في مرحلتها الحداثية الارتكان إلى تلك القاعدة بنظام واقعي. وها هي في مرحلتها ما بعد الحداثية تخلخل هذا النظام، مستعيدة ما داومت الرواية الكلاسيكية عليه ولعلها ستهتدي إلى نظام سردي جديد.
وعلى الرغم من اعتراف بعض النقاد الغربيين بتملُّص الرواية من تقاليد السرد الأوروبي الحديث غير أنهم لا يقرَّون بوجود تقاليد أرسخ وأسبق رجع إليها الروائيون الكلاسيكيون وتمثلوها، وإنما يقولون كما يذهب مالكم برادبري وجيمس ماكفارلن (لقد هرب الكثير من الكتّاب في العالم من الواقع وعدوه أما راكداً لا يثير الخيال وأما سرياليا مقززاً لذلك حولوا الرواية إلى مناسبة هاجموا عن طريقها كل ما هو منتظم وغير منتظم) وكأن الروائي الأوروبي يجرب في الفراغ أموراً لم يسبقه السابقون إليها منذ قرون بعيدة جداً. وهو ما ترفضه قوانين الإبداع ومعاملات الذكاء التعبيرية والنفسية ونظريات الأدب كالمحاكاة والتناص فالسرد نشاط ذو حلقات موصولة لا انقطاع فيها، وما مارسه الإنسان في الماضي الغابر يمكن له ان يستعيده في الواقع الحاضر. ومن ثم لا موت للواقعية بل هي تتجدد عبر التضاد مع الواقع نفسه.
وهذا التوق إلى تقليد الواقعية والرجوع إلى تقليد اللاواقعية إنما يتضح في الاهتمام بالتحرر من الواقع بالخيال؛ فالخيال وحده لا يكفي لصنع رواية كذلك الواقع وحده لا يكفي من دون الخيال لصنع عمل روائي. انطلاقاً من حقيقة أن الفن ليس تزييفاً للواقع بقدر ما هو صدمة التعرف على حقيقة الواقع. فما نراه أمامنا في الحياة هو واقع مزيَّف أصلاً وتمثيله فنياً يعني استعادة حقيقته بالسرد الذي فيه يكون جلياً ما في الواقع من تشويه وزيف وفساد.
وهو أمر كان الحكاء في العصور الغابرة قد حدسه بالفطرة، فالعالم غريب وغير مفهوم والمنطق الوحيد لفهمه هو تسخيفه وأسطرته وتخريفه.
إنها صنعة المؤلف الذي بنى سرده على قاعدة منها انطلقت تقاليد السرد القديم، مخالفاً بذلك ما حاول منظرو الرواية تأكيده وهو أن الواقعية هي الأصل الذي ينبغي أن تبنى عليه تقاليد السرد الأوروبي الحديث، مع أن عمر هذا السرد لا يؤهله بعد للرسوخ والذي هو أهم سمة من سمات أي تشكيل أو تمثيل يراد له أن يكون تقليداً من التقاليد.
ووفقاً لهذه القاعدة فإن التخييل هو فرس الرهان الذي به تكسب الرواية تميُّزها وتكمل مهمتها في فهم الواقع فالتخييل وحده هو الذي يسوِّغ المتناقضات ويوفِّق بين المختلفات ويسمح برصد ما لا يمكن رصده واقعياً في أبعاده الموضوعية والفنية. والكاتب الحقيقي هو الذي يترجم أعماقه في رواياته محولاً غير الواقعي إلى واقع أو محولاً الواقع إلى لا واقع مجسداً على الورق رواية تتمثل من دون أن تحاكي أو تحاكي ما هو متمثل. ويظل الخلق الأدبي رهناً بالتقاليد وكلما كانت راسخة، بدا أمر النجاح في اتباعها مضموناً، أما الشطح عنها وتجريب غيرها، فسيكون محفوفاً بالمخاطر.