الثقافة المقاومة

ثقافة 2023/11/22
...

حسن الكعبي 



تحيّزات الإمبريالية الأميركية والغرب بعامة واصطفافها مع الكيان الصهيوني وما يرتكبه من جرائم إبادة بحقِّ الفلسطينيين ومواطني غزّة، يفرض علينا مراجعة المفاهيم الثقافية التي ارتكزت عليها الإمبريالية الثقافية في تبرير جرائمها بحقِّ العرب الذين تنظر إليهم بدونية وتعال يستهين بالموروث الثقافي المؤسس لهويتهم ومنظومتهم القيمية بتأطيرها ضمن نظرة تختزل هذه المنظومة ضمن المفاهيم الجاهزة التي دأب الغرب على توصيف هذه المنظومة بها كــ(الرجعية والإرهابية والمتخلفة... إلخ من توصيفات تعمل على تنميط صورة العرب ومنظومتهم القيمية انطلاقاً من المخيال الغربي المتمركز حول ذاته).

استناداً إلى هذه التوطئة، فإنَّ مراجعة الجهاز المفاهيمي للفكر الغربي ومخياله المتوحش، ونرجسيته، وعصابيته تجاه الآخر، تكمن في نقد هذا الجهاز ومخياله الجامح والمتوثب لتقزيم الآخر بل وإبادته ونفيه واستلابه وإعادة تمثيله وصياغته، كمقاصد حافة بالمشروع الإمبريالي للامتلاك والهيمنة وتدبر هذا الآخر وتقرير مصيره.

 إنَّ نقد هذا المشروع ومركزيته يفرض استنهاض ثقافة مقاومة تؤسس لخصوصيتها ولثوابتها القيمية بإزاء هذه الثقافة المضادة، والتي يقصد بها مجموعة المتغيرات الثقافية التي طرأت على السياق الاجتماعي وبدأت تطمس معالم القيم الثقافية الثابتة أو تتهدد وجودها أو تجاورها في حالة تثير القلق، وتُعَدُّ وسائل الاتصال الحديثة في ظلّ هيمنة التكنولوجيا هي أجلى مظاهر هذه الثقافة المضادة التي نمت بفعل هيمنة الرأسمالية وشركاتها الاحتكارية الكبرى، فقد “أصبحت وسائل الاتصال الجماهيري كما يقول- عمر مصطفى- في زمن العولمة هي المصادر الأقوى في حياة الشعوب لصناعة القيم والرموز، وإذا أخذ بعين الاعتبار ما اعترى مؤسسات صناعة القيم في الوطن العربي- الأسرة والمدرسة- من خلل، تصبح المخاطر التي تتعرض لها الخصوصية الثقافية العربية أكثر وضوحاً وعمقاً”.

تعمل وسائل الاتصال الحديثة على تهديد ثوابت القيم والمفاهيم عبر خطاب الصورة كوسيلة ثقافية استعمارية للوعي الاجتماعي لـ”أننا اليوم- يقول حفناوي بعلي- نعيش تطوراً وحركية سريعة مع الخطاب المصور الذي أصبح أكثر تأثيراً من الخطاب المكتوب وهذا يعود إلى أنَّ للصورة قدرتها على إثارة القلق في ثوابت المفاهيم”.

وكما يقرر- عبد الله الغذامي- “يأتي التغيير الثقافي بتحوله من الخطاب الأدبي إلى خطاب الصورة ومن ثقافة النص إلى ثقافة الصورة وهو تغيير ستتغير معه قوى التأثير الاجتماعية وسيتغير قادة الفكر تبعاً لذلك”.

وهذا يعني أننا إزاء خطاب ينتقل من وظيفة إمتاعية إلى وظيفة ثقافية تستعمر الوعي الاجتماعي وتغربه عن ثوابته وقيمه الثقافية الأصلية بإنتاج ثقافة زائفة تمرر أنساقها الاحتكارية عبر الطبيعة الإمتاعية والجمالية التي تحوزها الصورة، التي بدأت تهيمن على المنتوجات الثقافية في الفن والثقافة والإعلام والسياسة، وهي التشكيلات الثقافية التي بدأت تتحول من هذا المنطلق كما يقول- الان دونو- لأنظمة التفاهة، فـ”نحن نعيش مرحلة تاريخية غير مسبوقة، تتعلق بسيادة نظام أدَّى تدريجياً إلى سيطرة التافهين على جميع مفاصل نموذج الدولة الحديثة”.

ويضيف “يلحظ المرء صعوداً غريباً لنماذج تتسم بالرداءة والانحطاط المعياريين: فتدهورت متطلبات الجودة العالية، وغُيّب الأداء الرفيع، وهُمّشت منظومات القيم، وبرزت الأذواق المنحطة، وأُبعد الأكفاء، وخلت الساحة من التحديات، فتسيدت إثر ذلك شريحة كاملة من التافهين والجاهلين ذوي البساطة الفكرية”.

ولذلك فهو يدعو إلى ممارسة نقدية جوهرية ترتكز على المناشط المعرفية في نقد أنظمة التفاهة وتقويض أركانها، بتأكيده ضرورة وجود مثقف إشكالي جذري يمارس وظيفته في نقد التفاهة والذي يرمز له بـ”اللوغوس” ويكون بالضد من المثقف الخبير التقني الذي يبرر إنتاجية الأنظمة والذي يرمز له بـ”الميثوس، المدرسي التبسيطي ولكن الذي يمتلك طبيعة مؤثرة”، وقد استعان- دونو-بتفصيله التقسيمي للوظيفة الثقافية باستبصارات- إدوارد سعيد- الذي نظر للوظيفة الثقافية في سياق ثنائية المثقف العمومي أو الهاوي الذي ينهض من الهامش لتقويض المركزيات الإمبريالية والمثقف المحترف الذي يتقاضى مبالغ معينة أو الذي تربطه مصالح من نوع ما مع المركزية الإمبريالية تكمن وراء تبريره لممارساتها الاستبدادية.

لأنَّ إدوارد سعيد كما يشير- محمد الجرطي- “لما كان لا يتغبا من وراء نقده للخطاب الاستشراقي توصيف آليات اشتغاله فحسب، إنَّما الكشف عن تحيزه وخدمته للإمبريالية، فضلاً عن الدعوة لمقاومته، فانَّهُ انتقد فوكو لاقتصاره فقط على إظهار كيفية تحول الخطاب إلى قوة مادية، مجرداً بذلك الإرادة الإنسانية من إرادة المقاومة”.

يُعَدُّ هذا التقسيم جوهرياً في خطاب إدوارد سعيد، والذي تمكن من خلاله من تخطي وتجاوز منظورات- ميشيل فوكو- على الرغم من أنَّ عمل- إدوارد سعيد- يدين له بوصفه المرجعية التي أقام عليه مشروعه في نقد الكولونية، لكنَّ مفارقة سعيد لخطاب فوكو وارتحاله عنه، تكمن في هذه النظرة الراديكالية لمفهوم المثقف، في حين أنَّ رؤية ميشيل فوكو هي رؤية استسلامية تنظر إلى أنَّ السلطة تمتلك هيمنة متعالية (ترنسندنتالية) لا يتمكن النقد من أن يتطاول عليها.

في هذا السياق يشير- بيل اشكروفت- إلى أنَّ “المشكلة التي لدى إدوارد سعيد مع ميشيل فوكو هي إحساس متردد بأنَّهُ مبهور بالطريقة التي تعمل بها السلطة، أكثر مما هو ملتزم بالمحاولة في تغيير علاقات السلطة بالمجتمع، إنَّ مفهوم فوكو للسلطة كونها شيئاً يعمل في كل مستوى اجتماعي لا يفسح مجالاً للمقاومة... أمَّا هدف سعيد فعلى العكس، ليس أن يقع في، بل أنَّ يبين ما هو كامن كي يقاوم ويخلق من جديد”.

ينظر ميشيل فوكو إلى السلطة بوصفها قوة مسيطرة ومتفشية في كل شيء وتمتلك القدرة على المراقبة والمعاقبة من دون أن يطالها شيء سواء كان هذا الشيء فعلاً مقاوماتياً أم أداة نقدية، ففوكو يؤمن بقوة المعرفة ويرى أنَّ السلطة هي التي تمتلك المعرفة وقوة الخطاب والإنشاء كمؤسسات تابعة للسلطة، لكن إدوارد سعيد يخالف هذا التوجه ويرى ضرورة مقاومة السلطة بإنشاء خطابات معرفية مضادة، انطلاقاً من رؤية إدوارد سعيد الطباقية التي هي قراءة مزدوجة تستحضر الثنائيات والآثار المتبادلة بينهما، أي ثنائيات المستعمر والمستعمر والاحتلال والمقاومة والمركز والهامش والشرق والغرب، وفي ذلك فإنَّ إدوارد سعيد يعتني بأدب المستعمر والمستعمر وينظر إلى أثر أحدهما في الآخر، ويرى من خلال رؤيته الطباقية إمكانية مقاومة السلطة مهما كانت تمتلك من خطاب معرفي متعال.

إنَّ دونو يهدف باعتماده هذه الوظيفة الثقافية إلى وضع مشروعه المهم ضمن الدراسات ما بعد الكولونيالية التي تهدف إلى تقويض المركزية الرأسمالية في سياق هيمنتها على المناشط العلمية ومراكز التجارة والاقتصاد وعلى مؤسسات الإنتاج الفني والثقافي التي تمكنت الرأسمالية من السيطرة عليها وتكييفها لمتطلبات التبرير لإنتاجيتها التي تخلو من روح الإنسانية لصالح ذلك الهوس المادي ونفعيته المدمرة، وهو ما يعمل- دونو- على تقويضه ضمن مرتكزات النظام الرأسمالي، ولذلك يتسيد عند- دونو- ذلك الاهتمام الكبير بنقد النظام المنتج للتفاهة كأولوية في مشروعه الفكري، من دون أن يعنى بالظواهر التي يَعُدُّها مجرد أدوات تبريرية تسعى لتغطية الوجه القبيح للنظام، والذي يساهم في استعمار المجتمعات وتغريبها عن هويتها الثقافية ومنظومة قيمها، وهو ما يفرض على الفكر العربي أن يخضع الفكر الإمبريالي للنقد باستنهاض أدوات نقدية تركن إلى الخصوصية وموروثاتها بجعلها مركزاً يواجه التوجهات المركزية الراكزة في المشروع الغربي، لتخليق ثقافة مقاومة مضادة لهذه الوحشية الغربية المفروضة علينا باسم التقدم والديمقراطية الزائفتين.