المطرُ الذي أخذ بناصية كلّ شيء

ثقافة 2023/11/23
...

  طالب عبد العزيز  

في الرابعة من فجر ليلة أمس، وفيما كنت استبدل الحلمَ بقصيدةٍ عن الضجر، عصرت السماء ثوبَ أنوثتها كله، وانهمرَ ماء كثير. هكذا، تخلت آلهة الصيف لآلهة الشتاء عن عرشها، وصار الغيمُ الاسود مطراً، نهراً نزقاً، عصفَ بالطفولة وبالنساءَ الوحيدات، وبسراويل وأحذية الصف الثالث الابتدائي، لذا أشرعت البابَ وشبّاكيَ الغرفة، وأطلقت للريح ما تأثثت به الآماد النائيات، قلت لها أدخلي، ومن أيِّ ثغر شئتِ أشربي الضوءَ ولمعة الكومدينو، وما غفلت عنه في النهار. أردت لها أن تعبث بالمكان ونحوه معاً. ومثل حفيدة صغيرة تركتها تعبث بخطاطات قصائد لم تكتمل، وبأصيص الزهر، وبقميصٍ أهملته على الطاولة، وبشعري الذي أطلقته من شهرين. ها قد وهبتها الذي أريده، والذي أزهد به، ولا أريده معاً، هذه الزائرة التي تأخرت في البحار والجبال والشموس والأشجار ضيفي في الفجر.

 من مجلسي في الصالة الكبيرة، والمطرُ آخذٌ بناصية كلِّ شيء، وقفتُ صُلباً، لم أشفق على شجرة تميل، ولم أسأل السماءَ صبراً، ولا الريحَ هبوباً أقلَّ، وما سامني الماءُ المحمولُ على الغبار شيئاً، ولا عتبةَ الدار التي أطينت وأوحلت، وما حدّثتُ نفسي بحديث أحدٍ سواي، فأنا منشغلٌ بهذه الروح، التي جفّت منذ عام.
كنتُ داخلَ المكان وخارجه، قريبا منه، وبعيداً عنه، مأخوذا به، ومأخوذا عنه، فرحاً بما ينهمر، ويساقط، ويفيض، ويتجرأ على السِّجاد، والارائك، وأسلاك الضوء.
هناك ما أعرف فِعله، وأكثر منه ما لا أعرفه، دنوتُ من أشياءَ كثيرةً، وبعدتُ عن الكثير منها، ونؤتُ بحمل فوانيسَ لا أراني شاهداً على شحٍّ بزيتها، أسمعُ صوت المطرِ، وهو ينخسفُ في الخشب والزجاج والحديد، لكأني لا أسمعه، وهو يأخذ بنواصي التوت والسفرجل إلى الأرض، وهو يحاصرُ الفواخت في فروج الحائط. اعترف بأنَّيَ كنت نصفَ عاقلٍ، وشبهَ مجنون، حتى أنني نسيتُ نصفَ زجاجةِ النبيذِ على الطاولة.
  يسألني ابني سبيلاً يتفادى به الماءَ، الذي اندفع في شبّاكٍ بغرفته، وأخذ بأردية الستائر وساتانها، فلا أوصيه بشيء.
هو يقول بأنَّ المطرَ بلغ خزانةَ الثياب والسرير، حيث يرقد وزوجته، وأنَّ الريح لا تستجيبُ لزاجرٍ في الليل، ولا تنتهرُ بكلمة في النَّهار، ولا يردعها دعاءٌ.. فأضحك، أقولُ: ليتها كذلك كانت يا بني، ليتنا لا ننهرها بكلمة، ولا نشنّع عليها فعلتها بقول، هذه الكريمة، الوابلة، القاطرة، الرّكُّ، الرَّطبة، النديّة، العرقانة، البلّالة، الهطّالة، الهتّانة، النثاثة، الصبّابة، السحّاحة، الودّاقة، النفّاضة، الشؤبوبُ، الغيثاءُ، الغدقاء، بنتُ السحاب.. كيف أطردها؟
وكيف لا أفتح الأبواب والشبابيك لها، وكيف أسدُّ الثغور بوجهها، ومن أنا لاعترض سبيلاً تذهب إليه، وناحيةً تقصدها، ونافذةً تطرقها، وقد أطلت من انتظاري لها، فهي من سنة تطرق باب الحلم، وأنا مترصدها في صفحات المنبئين، وورقتها في دعاء المستسقين، ومقنتها في أكفِّ الرعاة والزارعين.. دعها يابني. دعها، ففي الصباح فلاحٌ.  
 لم تأتِ زوجتي بمكنستها الخوص إلا على القليل منه، كان الماءُ المدافُ بالورق الجهنمي الاحمر وأزهارالدُّفلى البيضاء ثقيلاً، حاكته ريحُ البارحة الهوجاء باتقان، كذلك كانت قُزحُ العشب، التي استبقت حجرَ الممشى، بلونيه الابيض والاصفر ملتاثةً، لا أتبينُ وشيعةً لها، وكما في كلِّ مرة، فقد أعاقني الطين، ووعاءُ ماءِ النعاجِ، المكفوءِ عن بلوغ كوخ السعف والقصب، الذي شرعت ببنائه قبل شهر، ولم أنههِ، أخذَ المطرُ بناصية كمالِه اليوم، وجرجرت الريحُ الطُّوال بآمالي في الجلوس فيه، فأنا أتقلبُ في أرجائه، وأنظره بعين الامل، وأومئُ لعصافير الغد، أطلبها، بأنَّ تحطَّ رحالها على سقفه. كانت مذيعةُ الطقسِ الجميلة، بتنورتها القصيرة، قد أصدقتنا الرؤيا، وحتى الظهيرة، كانت الشمسُ قليلةً على النهر، لم تُكملْ حكايتها مع القرميد.
 من زاويتي، في المنزل، حيث لم أعد أنتظرُ الكثير، أبعثُ اليكَ بالسطورَ الباردة هذه، هكذا، كما كتب الأمريكي جاكسون بروان، نصائِحه لابنهِ ذات يوم :
لنْ تجدَ الماضي في طريقك إلى الغدِ، يا بُني
لأنَّ الحلمَ نفايةً ثقيلةٌ في الصحو.
وكلُّ الذين أدمنوا الغياب علِقوا في تقاطعاتٍ أربع
كلُّ جهة تشيرُ إلى جهة أخرى ..
فكن اللاشيء، مثلما كنتُها من قبل، ولا تبتئسْ
فالموتُ سكْرُ في الحياة، قديمٌ
وهو الطريق الوحيدة  لعودةٍ آمنةٍ آخرَ الليل.
كان إليوت قد «رأى لحظة جمجمته تتأرجحُ
ورأى خادمَه الأبديَّ يمسك معطفه»* أيضاً .
                *
أنا ذاهبٌ اليكَ، مثلما أنا آيبٌ منك
فلا تدلّني على الطريق،
بالقدم التي خذلتني أوَّلَ مرّة
وبالعين التي فقأتُها بأصبعِ الغياب
وباليدِ التي تسلمتْ باقة الورد
وبالأخرى، التي ظلت تومئُ في الوداع
سأعودُ، ليس كما يجبُ لأبٍ يعود
لكن، كما تبتعدُ شجرةٌ عن عصفورٍ صغير
                  *
خذ الطريق إليه، المساءَ الذي
لا ينتظرك في باحتهِ أحدٌ،
وتوكأ على عصا شجنِك القديم، إذا تعبت
ليسَ الظلامُ واحداً مما تصادفه
ولا رعدةُ الأمل التي تشبهُ لحظةَ الموت
وليست الشجرةُ المفردةُ، عند الجسر أيضاً
إنَّه الصدى الاسودُ في الاسفلت
إنِّه الالمُ، الذي في الرقبة، تنساهُ وتتذكرُه
فارفع قدمك، ارفعها عالياً ..
أعلى مما ينحطُّ من عظامِك
ومما ينهدم من لحمك، ويسقط.
أمَّا الذين أوقفتَ حياتك من أجلهم
فقد علقوا في كتيبة الباب الأخير، أخذتهم مساميرُها الأربع
صاروا الحرفَ الساقطَ الوحيد
في لوحةِ تعريفِ الزمن
حيث لا أحدَ يُعيد كلمةً إلى مكانها، حيث كانت  
فأغلقْ الباب بهدوء، وأطفئ النورَ بأناة
وخذ الطريقَ، خذ الطريق.
 * من قصيدة (رسالة حب إلى جي بروفرورك) لإيليوت بتصرف.