هل تتسبّب أوكرانيا بحرب عالمية ثالثة ؟

بانوراما 2023/11/27
...

  جيكوب نيجل
  ترجمة: أنيس الصفار  

في منتدى كييف للأمن الذي عقد مؤخراً، حذر سكرتير مجلس الأمن والدفاع القومي الأوكراني “أوليكسي دانيلوف” الحاضرين من أن الحرب العالمية الثالثة قد بدأت تذر بقرنها فعلا. وربما كان هنالك شيء ما يدور بخلد دانيلوف. فقد اندلعت الحرب بين روسيا وأوكرانيا في 24 شباط 2022، وبدا الروس خلال الأسابيع القليلة الأولى منها كما لو أنهم سيسحقون الأوكرانيين بهجوم كاسح خاطف، غير إن هذا التوقع كان بعيداً عن الدقة إلى حد كبير. ويبدو أن الجيش الروسي لم يكن مستعداً لهذه المهمة على النحو المطلوب، كما كانت تجهيزاته ومعداته أدنى فعالية بكثير من المتوقع، وكذلك كان الحال بالنسبة لمعنويات جنوده.
وبحلول أواخر ربيع 2022 ابتعدت الأوساط المعنية في واشنطن مرة أخرى عن الصواب كثيراً حينما توقع الخبراء الأميركان أنّ روسيا ستذعن لضغط العقوبات الغربية. ويبدو أن أولئك الذين توقعوا كارثة تمحق الاقتصاد الروسي لم يتعلموا شيئاً من تجربة العقوبات الغربية على كوريا الشمالية وإيران، وهما دولتان أصغر كثيراً من روسيا لكنهما تمكنتا من الصمود أمام ضغط عقوبات قاسية طيلة سنوات عديدة. لا أحد ينكر أن العقوبات قد أضرت باقتصاد الدولتين ولكنها لم تفلح في تغيير الطبيعة الجوهرية لنظاميهما.
تبدو روسيا وأوكرانيا اليوم عالقتين وسط حرب خنادق شبيهة بما حدث خلال زمن الحرب العالمية الأولى عندما كان الجانبان يتكبدان خسائر ثقيلة من دون تحقيق مكاسب أرضية أو ستراتيجية تذكر، وهناك شعور متزايد في الوقت الحالي باحتمال استمرار حالة اللاغالب ولا مغلوب هذه لسنوات. وهناك اسباب عديدة للاعتقاد بأن هذا هو ما قد يؤول إليه الحال.
كما يبدو أنّ كلا من روسيا أو أوكرانيا لا تمتلك القدرة العسكرية التي تمكنها من انزال هزيمة حاسمة بالأخرى. في الوقت نفسه لا يمكن لـلرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” او الأوكراني “فلودومير زيلينسكي” أن يبادر إلى إيقاف الحرب من جانبه. فإذا ما بادر زيلينسكي بذلك لن تبقى أوكرانيا بلداً حراً، ومن المرجح أن يهوي زيلنسكي نفسه من مقعد السلطة. أما اذا بادر الزعيم الروسي بوتين إلى وقف الحرب فسوف تتصدع صورته المرسومة في الذهن العام بوصفه رجل روسيا القوي، كما إنه من المرجح أن يواجه تحديات لحكمه.

محاذير واحتمالات
توقع بعض الصحفيين أن عدم شعبية هذه الحرب، نظراً لارتفاع أعداد ضحاياها المقترن بثقل اعباء العقوبات، يمكن أن تجعل الشعب الروسي ينقلب على بوتين، لكن هذه التوقعات كانت بعيدة عن الواقع هي الاخرى. فالتاريخ الروسي مفعم بأخبار الزعماء الذين أجبرا شعوبهم على تحمل خسائر هائلة من دون أن يتحملوا الثمن بانهيار النظام. فخطأ الحسابات الستراتيجي من جانب الزعيم السوفييتي “جوزيف ستالين” وكبار قادته العسكريين هو الذي أسفر عن إلحاق هزائم عسكرية مهينة بالجيش النازي الغازي خلال عملية بارباروسا في العام 1941، حيث خسر السوفييت مساحات شاسعة من الارض، وبلغت خسائرهم البشرية الملايين حتى من قبل أن تنطلق معركة ستالينغراد الدموية. ولا يزال الروس يفخرون إلى اليوم بأن الصعاب التي مروا بها هي التي صلّبت عزيمة الجيش والشعب، لتوصلهم في نهاية المطاف إلى النصر التاريخي على الغزاة الألمان.
من الطبيعي أن أيا من هذه لا يعني أن العالم سائر حثيثاً نحو حرب شاملة، لكن يبقى بوسع السيناريوهات الكبيرة أن تحتم دفع الأمور نحو منعطفات سيئة. مثلاً إذا ما حدث انهيار في خطوط الجبهة الروسية (كأن ينجح الأوكرانيون في اختراق نقاط مثل زابورجيا وخيرسون والمناطق المحيطة وتأسيس رأس جسر على شبه جزيرة القرم) فقد يحفز هذا الروس على نشر أسلحة نووية (تكتيكية او حتى ستراتيجية) لاستعادة التوازن علما أنّ الخريطة العسكرية في حالة تغير بين فترة وأخرى يصعب معها تحديد المواقف العسكرية بدقة. وقد حذر نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي “ديمتري مدفيدف” مراراً من أن روسيا لن تتردد في استخدام مثل هذه الأسلحة عند الضرورة. بالمقابل، فإن حدوث انهيار مفاجئ في الجانب الأوكراني – عند حد سقوط العصمة كييف مثلاً–  قد يجعل الولايات المتحدة وحلفاءها في حلف الناتو مضطرين للزج بأسلحة جديدة أكثر قدرة أو حتى نشر جنود من جانبهم في المنطقة لإعادة التوازن. وفي حالة حدوث أي من السيناريوهين المذكورين فإن المسار نحو الحرب العالمية الثالثة لن يعود مجرد سيناريو من عالم الخيال العلمي.
من خلال نظرة أوسع قد يسفر خطأ الحسابات من قبل اي جانب إلى عواقب غير مقصودة. مثلاً إذا ما اسقطت احدى بطاريات الدفاع الجوي الروسية طائرة مقاتلة تابعة لحلف الناتو عبرت المجال الجوي البولندي ودخلت أوكرانيا نتيجة خطأ ملاحي، فمن الممكن أن يدفع ذلك حلف الناتو إلى تفعيل المادة الخامسة من بنوده. وعلى النحو ذاته لن تكون المادة الخامسة خارج الصورة اذا ما اصابت صواريخ روسية بعيدة المدى هدفاً داخل احدى دول الجوار الأوكراني الأعضاء في حلف الناتو وتسبب الأمر بحدوث وفيات كثيرة.
كذلك فإن مشاركة دولة أخرى في الحرب قد يشعل شرارة نزاع أوسع نطاقاً. فعلى مدى الأشهر العشرين الماضية انضم آلاف المقاتلين الأجانب إلى كلا الجانبين المتحاربين، وهو وضع يذكرنا بالألوية الدولية التي قاتلت إلى جانب القوميين والجمهوريين خلال سنوات الحرب الأهلية الاسبانية (للفترة 1936- 1939)، لكن اذا ما استمر وضع اللاغالب ولا مغلوب على خطوط الجبهات فقد نرى دولاً أخرى تدخل الساحة وبيلاروسيا، التي اصطف رئيسها لوكاشينكو مع الروس منذ البداية، مرشح واضح هنا. أما المرشح الثاني فهو كوريا الشمالية، لأن القائد الاعلى “كيم جونغ أون” الذي أعاد ملء مخازن السلاح الروسية مؤخراً بالاسلحة والذخائر من ترسانته الخاصة لا يتوقع منه أن يذرف الدموع إذا ما فقد جنود من كوريا الشمالية حياتهم في أوكرانيا مقابل اكتسابه دوراً أكثر أهمية على المسرح الدولي.
على الجانب الآخر من الموازنة يبقى من بعيد الاحتمال ان ترسل دول غربية مثل بريطانيا أو المانيا او فرنسا جنوداً إلى أوكرانيا، ولكن نظراً لعمق العداء التاريخي ومشاعر الارتياب التي تكنها بعض دول اوروبا الشرقية لروسيا، مثل بولندا، من يستطيع الجزم بما يمكن ان يحدث؟
أما الصين فقد حاولت البقاء حتى الآن على سياسة الحياد، رغم تقديمها المساعدة لموسكو من وراء الكواليس. لا يخفى على بكين أن أزمتها الاقتصادية الحالية مرتبطة إلى حد ما بتدهور علاقاتها مع الولايات  المتحدة، رغم ذلك قد لا يكون الصراع رادعاً لبكين، فالقيادة الصينية تقلب خياراتها بلا كلل ما بين شن حرب غزو وفرض الضم على تايوان بالإكراه. في مرحلة من المراحل سيكون بإمكان الرئيس “شي جنبنغ” أن يعرض على الروس اتفاقاً يدعمون بموجبه غزو تايوان مقابل دعم الصينيين لهم ضد الولايات المتحدة وأوروبا. رغم أن هذا الاحتمال مستبعد لدى البعض فإن من المفيد تذكر بأنّ جيش التحرير الشعبي (وهو الأكبر في العالم) يوشك أن يدخل عامه الخامس والنهائي من خطة التحديث الكبرى، وإذا ما كان أوار الحرب بين روسيا وأوكرانيا لا يزال مستعراً بحلول العام 2025 فقد يصبح مثل هذا السيناريو أكثر واقعية.

سيناريوهات أخرى وبصيص أمل
نحمد الله أن هناك ايضاً سيناريوهات طيبة قد تسفر عن انهاء الصراع، وبالتالي ينحسر احتمال تطوره إلى مواجهة عالمية. فأوكرانيا وروسيا سبق أن اثبتتا انهما تستطيعان الحفاظ على وقف إطلاق النار بدرجة من الدرجات حين افلحتا في منع تحول الموقف إلى حرب شاملة عقب الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم في العام 2014، نتيجة لذلك بقي الهدوء النسبي سائداً حتى العام 2022.. لم يكن وقفاً كاملاً لاطلاق النار إذ بقيت المناوشات تتخلل المشهد بانتظام في منطقتي دونتسك ولوهانسك (حيث تشكل العرقية الروسية معظم السكان)، ولكن أمكن ابقاء المنطقتين تحت السيطرة بدرجة من الدرجات. بالتالي قد يتوصل الجانبان إلى إتفاق على وقف لاطلاق النار طالما بقي مغزاه بعيداً عن الإقرار بالهزيمة.
من الأمور التي قد تطرأ خارج التوقعات الرئيس الأميركي السابق “دونالد ترامب”. فإذا ما عاد ترامب إلى البيت الأبيض في انتخابات العام المقبل فسوف ينفذ ما تعهد به ويقطع كافة المساعدات عن أوكرانيا. بل ربما سيمارس ضغوطاً على حلفائه في الناتو كي يوقفوا المساعدات التي يقدمونها ايضاً. في مثل هذا السيناريو قد يضطر الأوكرانيون إلى الموافقة على وقف إطلاق النار تحت ظل ظروف ليست في صالحهم، خاصة مع تراخي الاهتمام الدولي بهذه الحرب نتيجة اندلاع الحرب في غزة منذ السابع من تشرين الأول الماضي. إن احتمالات تطور الحرب في أوكرانيا إلى صراع يعم العالم كله قد لا تكون عالية، ولكنها في الوقت نفسه ليست صفراً. فالتوترات مرتفعة والدول الأوروبية تصعّد انفاقها الدفاعي لأن الخوف من هجوم روسي أوسع مدى يجعل العديد من هذه الدول على أقصى درجة من التوتر والحذر. هذه الدول تدرك أن الحرب كلما طال أمدها وتصاعدت خسائرها البشريّة وازدادت وطأة العقوبات على روسيا اشتدّ معها خطر “الدب الجريح” وأصبح معرضاً أكثر للوقوع في حسابات لا يمكن قراءتها.

عن مجلة “ذي ناشنال إنتريست”