بيرية جيفارا
حسن السلمان
في الحقيقة، أنا لستُ من مرتادي الحانات، ولستُ من متعاطي الكحول بشكل دائم، انما كنت أتناول القليل منه في بعض المناسبات الاجتماعية البهيجة كالأعياد وحفلات زفاف الأقارب والأصدقاء، بل حتى القليل الذي كنت أتناوله يسبب لي سوء هضم وصداعاً صباحياً لا أستطيع التخلص منه إلا بعد أن أتناول عدة أقراص صداع، ولكنني، ولضغوط نفسية كبيرة سببها العمل الشاق ومشاكله، قررتُ أن أذهب إلى حانة لتناول زجاجتي جعة للترويح عن نفسي.
في المساء، وكان الجو بارداً برودة منعشة، والريح معتدلة السرعة، قادتني قدماي إلى حانة قنديل البحر التي تقع على ناصية شارعٍ تتراصف على جانبيه الكثير من المقاهي والحانات والملاهي ودور السينما ومطاعم الأكلات السريعة كالشاورما والهمبرجر.. كانت حانة صغيرة أنيقة بواجهة زجاجية موشّاة بقلوب حب صغيرة من القطن الوردي اللون، ومصابيح برتقالية، خافتة الإنارة، وطاولات خشبية دائرية الشكل لايتجاوز عددها العشر، ولوحة ظريفة من قماش القطيفة لمجموعة كلاب متهدلة الآذان تلعب الورق، ودكة عالية من خشب الورد البني اللون المعرّق بخطوط بيض، يقف خلفها رجل في الستين، تلمع صلعته التي تتوسط رأسه تحت المصباح، يرتدي قميصاً أبيض بأربة عنق سوداء، وصديرياً رصاصياً بأزرار ذهبية، ونادلة ثلاثينية بوجه يشبه إلى حدٍ كبير وجه الرسامة المكسيكية «فريدا كاهلو» حيث الوجه الضيق النحيف، والعينين الصغيرتين اللتين يعلوهما حاجبان معقودان، ترتدي قمصلة جلدية مارونية اللون على قميص وبنطال أبيضين، وتضع على رأسها بيرية سوداء تتوسطها نجمة فضية تشبه بيرية جيفارا الثائر تماماً... ومن مكان ما، تنبعثُ موسيقى بيانو يرافقها نايٌ ذو نغمات آسيوية شجية..
جلستُ إلى طاولةٍ قرب الواجهة الزجاجية التي تطل على الشارع منتظراً أن توافيني النادلة لتلبية طلباتي حيث كانت تتنقل بين الطاولات لتلبية الطلبات والترحيب بالزبائن ومصافحتهم وثمة ضحكة ودودة تنفرش على شفتيها النحيفتين.
شيء ما جذبني إلى بيريتها، فَرحتُ أتابعها وهي تتنقل بين الطاولات بخفة ورشاقة حتى وصلتْ إليَّ. ألقتْ عليَّ تحية المساء بصوتٍ يفيض انوثة وعذوبة وصافحتني.. كانت يدها صغيرة باردة، وثمة عطر بنكهة ورد الجوري يفوحُ من ملابسها. سحبتْ يدها بلطف وانتظرتْ ما أطلبه.. سرحت قليلاً لكنني سرعان ما انتبهت لنفسي وطلبت زجاجتي جعة مع طبق فستق مملح وعلبة سجائر «دي موريه». عادتْ بطلباتي وصبّتْ لي كأساً من الجعة، متمنية لي وقتاً طيباً.. لحظتها شعرت بأن تلك البيرية السوداء المائلة قليلاً نحو جهة وجهها اليسار تمنحها سحراً وجاذبية وهيبة..
لم أرفع عينيَّ عنها وهي تدور كالنحلة بين الطاولات، حتى أنني لم انتبه كيف شربت زجاجتي الجعة وكيف دخّنت نصف سجائري بهذه السرعة الفائقة فناديتُ عليها أن تأتيني بزجاجة أخرى ثم توالت الزجاجات حتى حان موعد إغلاق الحانة فدفعت حسابي وودعتها لترد عليّ بابتسامة لطيفة متمنية لي ليلة سعيدة وثمة شعاع ينبعثُ من نجمة بيريتها الفضية.. بقيت واقفاً قبالة الحانة حتى انطفأتْ مصابيحها، المصباح تلو المصباح، ولا شيء يشغلني ويجعلني في حالة من البهجة سوى تلك النادلة الناعمة وبيريتها التي تحجب نصف جبينها الضيق.
بعد تلك الأمسية، لم أستطعْ ردع رغبتي من الذهاب إلى حانة قنديل البحر ورؤية نادلته. تكرر ذهابي وعلمت بأنها تعمل ثلاثة أيام في الأسبوع فقط، السبت والثلاثاء والخميس، حيث يحلُّ بدلاً عنها نادل زنجي جميل الملامح تفوحُ منه رائحة عطر زيتي خانق. كان اسمها فريدة وقد استلطفته كثيراً لأنه قريب الشبه من اسم «فريدا كاهلو» التي تشبهها، وشيئاً فشيئاً توطدتْ بيني وبينها علاقة صداقة حميمة وراحتْ تجلس إلى طاولتي للمسامرة ومشاركتي شرب كأس من الجعة، وتدخين سيجارة أو سيجارتين.
كنتُ أحرص على المجيء إلى الحانة متأخراً كي يقل عدد الزبائن ويتوفر لها الوقت لمسامرتي لأطول وقت ممكن وأكون آخر المغادرين. ذات أمسية مفعمة بالمشاعر الدافئة، دعوتها إلى الغداء فوافقتْ دون تردد.
في مطعمٍ عائمٍ على ضفة النهر يقدم المأكولات البحرية، جلسنا إلى طاولة تحاذي الواجهة الزجاجية التي تطلُّ على النهر.. كانتْ فاتنة بفستانها الكحلي، وطوق الخِرَز الأصفر الذي يحيطُ برقبتها، وبيريتها التي تنحدر من حافاتها الجانبية خصلات شعرها القصير المموج، وابتسامتها التي لا تفارق شفتيها. بعدما انهينا وجبة الغداء، انتقلنا إلى كازينو مكشوفة تقع على ضفة النهر هي الأخرى واخترنا طاولة منزوية.. كانت الكازينو شبه خالية إلا من رجل عجوز يطالع جريدة. وفوق كل طاولة، ثمة مظلة باللونين الأزرق والأبيض.
تناولنا الشاي والمرطبات وراحتْ تنظر إلى الزوارق البخارية التي تقطع النهر وتتابع أسراب النوارس التي كانت تحوم بكثافة فوق المراكب الشراعية الراسية قريباً من ضفة النهر.
بلطف قلت لها:
أتدرين؟ إنكِ ساحرة بهذه البيرية. منذ ومتى وأنتِ ترتدينها؟
ضحكتْ وردتْ عليَّ ممازحة: بالبيرية فقط؟
تداركتُ زلة لساني ورددتُ عليها بنبرة متعثرة: بالطبع لا. أنتِ ساحرة، لكن هذه البيرية تضفي عليك سحراً أكبر وهيبة وجاذبية. هكذا أشعر.
-وما السر في هذه البيرية التي أعجبتكَ وجعلتكَ تراني بشكل آخر وهي فوق رأسي؟
-لا أدري. إنها تشبه بيرية جيفارا.
-جيفارا؟
-نعم. إلا تعرفينه؟ إنه ثائرعالمي؟
ثم اردفت ممازحاً: كما أنه وسيم وجميل مثلك ونصف نساء العالم تعشقه.
ضحكتْ، ونقرتْ بأصابعها النحيفة فوق الطاولة وقالتْ وهي تهزُّ رأسها: حسناً. منذ عام تقريباً أهدتني شقيقتي الكبرى هذه البيرية في عيد ميلادي وقد أعجبتني ولم أخلعها إكراما لها.
قلت لها متضاحكاً: أرجوك لا تخلعيها.
ضحكتْ وعادتْ تنظر إلى النهر فسألتها بعد ترددٍ طويل: عفواً. لماذا تعملين ثلاثة أيام في الأسبوع فقط؟
أطرقتْ قليلاً وأخبرتني بأنها تفرّغ نفسها للمذاكرة لإكمال تعليمها خارجياً لأنها مسؤولة عن إعالة أم طاعنة في السن وثلاث شقيقات بعد فقدان والدها في الحرب وسفر شقيقتها الكبرى إلى خارج البلد حيث كانت تساعدها في إعالة العائلة.
لم أجد ما أردُّ به عليها فالتزمت الصمتَ تاركاً إياها مسافرةً مع مويجات النهر وأسراب نوارسه ومراكبه الشراعية المتأرجحة على المراسي، وأجلت ببصري في أرجاء الكازينو، ولم يكن ثالثنا سوى العجوز الذي كان منكبّاً على جريدته لم يرفعْ عينه عنها طيلة الوقت.
نظرتْ في ساعتها وشعرتُ بأنها على وشك أن تطلبَ مني المغادرة، لكنها سألتني مبتسمة:
-وأنتَ؟ ماذا عنك؟
-أنا؟ لا شيء يثير الاهتمام. حياة عادية جداً. غير مرتبط. أعيش مع أمي وأبي. أعمل في مهنة شاقة. أحب الأدب. ولي محاولات خجولة في كتابة القصة القصيرة.
«جميل. أنا أيضاً كنتُ أهوى الأدب، وقد قرأت بعض الروايات الرومانسية ولكن هموم ومشاغل الحياة لم تعدْ تسمح لي أن اقرأ شيئاً»
قبل أن نغادر، أهدتني ميدالية على شكل مرساة ذات لون نحاسي، وشكرتني على الدعوة..
لا أدري كيف علم بعض زملاء العمل والأصدقاء بترددي على حانة قنديل البحر ولامني بعضهم محذراً إياي من السقوط في بئر الإدمان وتدهور حالتي الصحية السيئة أساساً لأنني أعاني من مشكلات في القلب. لكنني ضربت بعرض الحائط لومهم وتحذيراتهم وقلقهم حول صحتي كأنني لم اسمعْ شيئاً وواظبت على التردد إلى حانة القنديل البحر والاستمتاع برؤية نادلتها ذات البيرية الجيفارية التي تعلو حاجبين معقودين وأنف وفم صغيرين كأنهما أنف وفم طفلة لم تبلغ بعد شكل الامرأة الناضجة.
لم يمنعني الجو العاصف الماطر في ذلك السبت من الذهاب إلى حانة قنديل البحر. بسبب سوء الأحوال الجوية كانت الحانة شبه خالية إلا من شابين في مقتبل العمر يتناولان المشروب المحلي ويتهامسان، ورجل ستيني بذقنٍ نابت، وشعر يخالطه الشيب، مسرّح إلى الوراء، يرفع كأسه ببطء شديد إلى شفتيه البنفسجيتين ودخان سيجارته يتصاعدُ بشكل لولبي..
كمن أصيبَ بإحباط شديد من خذلان أعز الناس إليه وجدت نفسي: من وراء ستارة مخزن الحانة، أطلّتْ فريدة حاسرة الرأس من دون بيريتها.. دارتْ عيناي في محجريهما وشعرت كما لو أنني في قلب زوبعة من الخيبة.. حاولت أن أكونَ طبيعياً ولكنني لم أستطع.. ضاق صدري، وتدفق الدم إلى وجهي، وجفَّ فمي.. بمشيتها المتمهلة وقفتْ بمواجهتي وحيّتني.. بالكاد رددت عليها التحية وحين صافحتني سحبت يدي من يدها بسرعة.. لبثتْ واقفة لحظة من الزمن وسألتني:
«ما بك؟ أراكَ اليوم لستَ على ما يرام؟»
من دون أن أرفع نظري إليها اجبتها ببرود:
«لا شيء. مجرد إرهاق»
على مايبدو لم يعجبها ردي فسألتني بجفاء:
«طيب. طلباتك؟»
«كالعادة. زجاجتا جعة وطبق فستق مملح وعلبة سجائر دي موريه»
بعد تخلي فريدة عن بيرية جيفارا شعرتُ بأن نبرة صوتها قد تغيرت. لم تعد تلك النبرة العذبة التي تفيض انوثة وعذوبة. أصبحتْ نبرة خشنة كما لو أنها نبرة مدمن تبغ عتيد..
لم تعدْ تلك المخلوقة الشفافة الرقيقة التي تطوف على رؤوس الزبائن بصينيتها الكريستال العامرة بزجاجات وكؤوس المشروب. بتُّ أراها مخلوقاً ثقيل الظل، غليظ الطبع. شعرت بعد تخليها عن البيرية بأن هناك شيئاً ما ينقصها، شيئاً لا يمكن تعويضه، وليس من الممكن غض النظر عنه. لم أكن انظر لبيرية فريدة بأنها مجرد شيء جمالي متمم لشخصيتها، بل كنت أراها سر جاذبيتها وهيبتها الذي لا يعرفه أحد غيري.. إنها الآن مجرد امرأة عادية تعمل
نادلة.
بعد ذلك السبت العاصف الماطر انقطعتُ عن المجيء إلى حانة قنديل البحر. بل كنتُ أتحاشى حتى المرور بشارع الحانات والمقاهي ودور السينما، وعندما يعاودني الحنين للذهاب إلى هناك، بقسوة وألم، أطرد من خاطري شارعاً، تقع على ناصيته حانة تدعى حانة قنديل البحر، كانتْ نادلتها، تضع على رأسها بيرية سوداء تتوسطها نجمة فضية.