ما كلُّ مَنْ قال شَعَر ..!!

ثقافة 2019/05/14
...

حسين الصدر
 
 
- 1 - 
الذين يمارسون تدبيج القوافي، ويعدون أنفسهم من الشعراء، كثيرون ، ولكن الحقيقة ان الكلام الموزون المقفى وإنْ سُمّي شعراً إلا أنه في كثير من الاحيان لا يحمل من الشعر الاّ شكله ، ويغيب السحر والفن، وتختفي المعاني والصور ..
 
- 2 - 
وعنوان المقالة : هو شطر من بيتِ شعرٍ قاله (محمد بن صالح العباسي) المكنّى بابي يعلى بن الهباريّة ، الذي قيل عنه انه مات سنة 504 هجرية .والسؤال الآن :متى قاله ، وماهي المناسبة؟ والجواب :جاء في وفيات الاعيان 4 / 456 :
“ ومن غرائب نظمه كتاب ( الصادح والباغم) نظمه على أسلوب كليلة ودمنة، وهو أراجيز وعدد بيوته ألفا بيت أهداه الى الأمير ابي الحسن صدقة بن منصور صاحب الحلة .
وفتحه بهذه الأبيات :
هذا كتاب حسنُ            
تحارُ فيه الفِطنُ
أنفقتُ فيه مدّه 
عشرَ سنين عده
 منذ سمعت باسمكا
وضعتُه برسمكا
بيوتُه ألفانِ
جميعا مغاني 
لو ظلّ كلُّ شاعر 
وناظمٍ وناثرِ
كعُمرِ نوح التالد 
في نظمِ بيتٍ واحدِ
مِنْ مثله لما قَدَرْ
ما كلُّ مَنْ قال شَعرْ 
 
- 3 - 
ونلاحظ من خلال هذا الرجز انّ (ابن الهبارية) أنفق من عمره سنين عديدة، بلغت العشرة وهو مشغول باعداد أراجيز يحملها للامير صدقة الأسدي ، الجديد فيها انها جاءت على غرار كتاب (كليلة ودمنة) الذي كان مشتهراً في ذلك الزمان ...
والغريب : انه يمدح شعره مدحاً تجاوز فيه كل الحدود والاّ فما معنى قوله :
( لو ظَلَ كلُّ شاعرِ
وناظمٍ وناثرِ
كعمر نوحِ التالدِ
في نظمِ بيتٍ واحدِ 
مِنْ مثله لما قدر 
ما كلُّ من قال شعر ) ؟
اننا نستطيع وعبر دقائق قليلة وليس عبر قرون عديدة – كما هو عمر نوح (عليه السلام)
ان تأتي بمثل ما جاء به (ابن الهبارية) ومن دون عناء وكلل ، فلماذا هدّ التهويل والمبالغة الممجوجة التي خرج بها (ابن الهبارية) من الساحة الشعرية الى ساحة الخيال والافتراضات الباطلة ؟
هل هي النرجسية العالية ؟ ام انها الإثارة للامير صدقة ليأتي العطاء وفيراً كبيراً ؟  ام ان الاحتمالين ممتزجان لا ينفك أحدهما عن الآخر ؟ وعلى كل حال فان مدح النفس مسلك محموم ، وطريق ملغوم... وبالامكان أنْ تقول :
المدح جاء بارداً فجّأً 
وكان فجّاً فاسدا
ولم تكن موّفقا 
بل كنتَ فيه أحمقا 
 
- 4 - 
الجميل في الابيات قوله :
( ما كلُّ من قال شَعْر)
وهو ينطق عليه قبل أن ينطبق على غيره من الشعراء .
ومن امثلة القوافي الكسيحة الخالية من الروح قول (السلفي) في مدح أحد العلماء :
هو المزنيُّ ابّان الفتاوى 
وفي علم الحديث الترمذيُّ
وجاحظ عصره في النثر صدقا 
وفي وقتِ التشاعر بحتريُّ
وفي النحو الخليل بلا خلافٍ 
وفي حفظ اللغات الاصمعيُّ
أيعجبك مثلاً قوله (وقت التشاعر) ؟!!
وهل راقك اصطلاح (حفظ اللغات ) ؟
انها مجرد ألفاظ وليست الاحاسيس الموّارة بعبق الفن وسحر المعاني .