التفكير بلغةٍ مختلفةٍ يُسهّل عملية اتخاذ القرار

بانوراما 2023/11/29
...

 ديفيد روبسون
 ترجمة: مي اسماعيل

أظهرت الدراسات أن الاشخاص، الذين يتحدثون لغة ثانية هم أكثر عملية ومرونة من غيرهم، وأقل أنانية وكرها للمخاطرة، وأكثر قدرة على التعامل مع الذكريات المؤلمة.
عندما قام الكاتب الروسي "فلاديمير نابوكوف" بمراجعة سيرته الذاتية: "حديث، ذاكرة"؛ وجد نفسه في حالة نفسية غريبة.. كان قد كتب تلك السيرة لأول مرة باللغة الإنجليزية، ونشرت عام 1951. وبعد بضع سنوات، طلب منه أحد الناشرين في نيويورك ترجمتها مرة أخرى إلى اللغة الروسية، لمجتمع المهاجرين. أعاد له استخدام لغته الأم سيلا من التفاصيل الجديدة عن طفولته؛ دونها بلغته المعتمدة في نسخة نهائية للكتاب نشرت عام 1966.
كتب نابكوف عن تلك التجربة قائلا: "لقد ثبت أن إعادة صياغة نسخة روسية من نسخة إنجليزية لما كان سردا للمرة الثانية بالانكليزية لذكريات روسية في المقام الاول؛ هو أمر جهنمي للغاية! ولكني حصلت على بعض العزاء من فكرة أن مثل هذا التحول المتعدد؛ المألوف لدى الفراشات؛ لم يجربه إنسان من قبل..".

طريقة تصوّر العالم
أصبح علماء النفس منذ العقد الماضي مهتمين بشكل متزايد باستخدام مثل هذه التحولات العقلية. فإضافة إلى تغيير نوعية ذكرياتنا؛ يمكن أن يؤثر التنقل بين لغتين على قدرة الانسان على اتخاذ القرار الاقتصادي وتقييمه للمعضلة الأخلاقية.
ومن خلال التحدث بلغة ثانية، يمكننا حتى أن نصبح أكثر عقلانية، وأكثر انفتاحا ذهنيا، وأفضل استعدادا للتعامل مع الشكوك.
تعرف هذه الظاهرة باسم "تأثير اللغة الأجنبية"؛ وقد تكون فوائدها مصدر إلهام لكل من يرغب في إثراء ذهنه بكلمات لغة أخرى. لا يجب أن نخلط بين "تأثير اللغة الاجنبية"، وبين المبدأ الأكثر قِدما: "الحتمية اللغوية- linguistic determinism"، التي تقترح أن الكلمات والقواعد المحددة للغة ما يمكن أن تغير الطريقة التي نتصور بها العالم. وبهذا المنظور يمكن أن يتغير ادراك الناس للألوان وفقا للمصطلحات التي يستخدموها لتقسيم قوس قزح، بينما قد يتأثر ادراك الناس للوقت بالصيغ النحوية التي
يستخدمونها.
ظهرت هذه الفكرة في فيلم "الوصول-Arrival" الروائي، حيث كانت لغة المخلوقات الفضائية فيه تُجسّد (بشكل غامض) تجربتهم مع العالم. ولكن ما اذا كان هذا يحدث في الحياة الواقعية أم لا؛ لا يزال موضع نقاش علمي كبير.
لا يعتمد "تأثير اللغة الأجنبية" على السمات المحددة للغة التي يتحدث بها أحدهم؛ لكنها تهتم بدلا من ذلك بالتجربة العامة للانتقال من لغة أولى إلى لغة ثانية.. فكيف يتغير تفكير الشخص الذي ينتقل من اللغة الانكليزية التي تعلمها منذ المهد إلى اللغة الايطالية (على سبيل المثال)
التي درسها بإعتناء وهو بالغ؟
التأثير في المنطق الأخلاقي
قاد البروفسور "بواز كايزر" من جامعة شيكاغو أبحاثا عن اللغة الثانية؛ متسائلا عن تأثير ذلك الانتقال على تحليلنا الأخلاقي، والذي غالبا ما يكون مدفوعا بمشاعرنا الغريزية بدلا عن التفكير المنطقي.
تخيل على سبيل المثال انك تقف على جسر ترى منه قطارا مقبلا على وشك أن يسحق خمسة اشخاص يسيرون على القضبان؛ والطريقة الوحيدة لانقاذهم هي ان تدفع شخصا ثقيلا من الجسر ليقع أمام القطار. سيموت ذلك الشخص؛ لكن التأثير سيمنع القطار من سحق الخمسة الآخرين.  
يُعتبر هذا هو الاختيار "النفعي" في نسخة من التجربة الفكرية المعروفة باسم "مشكلة العربة- trolley problem".
بالطبع يشعر الكثيرون بإشمئزاز كبير من فكرة دفع الرجل إلى حتفه حتى ليفضلوا الامتناع عن أي تحرك إطلاقا؛ حتى وان كان ذلك يعني خسارة أرواح اخرى.
في تجربة اولية أجراها كايزر وفريقه، طلبوا من مشاركين تعلموا لغة ثانية هي الاسبانية أن يُفكروا بتلك المعضلة، بلغتهم الأم أو باللغة الثانية. وكما افترض كايزر؛ ارتفعت احتمالات اتخاذ المشاركين للخيار "النفعي" حينما استخدموا اللغة الاسبانية مقارنة مع استخدام اللغة الانكليزية.
وكان التأثير كبيرا جدا بحيث ان كايزر تريث في إعلان النتائج؛ قائلا: "لم أُصدق تلك البيانات..". لكن اختبارا مماثلا آخر أُجري في جامعة برشلونة سجّل ذات النتائج مع مشاركين مختلفين من الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا.
وفي إحدى العينات كان المشاركون أكثر عرضة بمقدار الضعف لاختيار "الخيار النفعي" عند التحدث بلغة ثانية.
وجّه كايزر انتباهه إلى  التحيزات المعرفية الكلاسيكية؛ مثل "النفور من الخسارة قصيرة المدى"؛ وتعني كراهية الناس للمخاطرة بخسارة كمية قليلة من المال مقابل احتمال كسب كمية أكبر؛ حتى لو مال الميزان لصالح الكسب.  وهذا أمر قد يكون مفيدا على المدى القصير؛ لكن يحد من المكاسب عند تنفيذه مرارا.
هذا التحيز يعني مشكلة كبيرة للمستثمرين؛ لكن كايزر وجد أنه أقل حدة عندما يتم تقديم الاحتمالات بلغة أجنبية؛ كما يقول كايزر: "يكره الناس احتمال الخسارة؛ لكنهم يكرهونه بشكل أقل عندما يعرض عليهم بلغة أجنبية". وكشفت تجارب أخرى بأن التحدث بلغة ثانية يقلل الخضوع لتأثير "التلفيق"؛ وهو الميل للتأثر بصياغة معينة للمعلومات، ويقلل كذلك تأثير "التكلفة الغارقة"؛ وهو إحجامنا عن ترك مسعى فاشل.
اختبرت إحدى الدراسات الحديثة الأكثر إثارة للاهتمام "نقطة التحيز العمياء" لدينا.. وتعني- التوقع بأننا أقل عرضة للخطأ من الشخص العادي. وهو ما يفسره البروفيسور "ميشال بيالك"، من جامعة فروتسواف ببولندا، قائلا: "يعتقد الإنسان أن الآخرين أغبياء، على العكس منه".. بينما اكتشف كايزر أن تحدث لغة أخرى يُفنّد طريقة التفكير المغرورة تلك.
تداعت العديد من نظريات التحليل النفسي تحت مجهر التمحيص منذ نشر كايزر تجربته عن اللغة منذ نحو أحد عشر عاما؛ لكن نظرية "تأثير اللغة الاجنبية" لم تتداعَ. ويصفها "سيمون سولبيزيو" الأستاذ المساعد من جامعة ميلانو بيكوكا بإيطاليا قائلا: "إنها متسقة وقابلة للتكرار". أجرى سولبيزيو تحليلا تحوليا حديثا لفحص الأدلة حتى الآن، رغم أنه وبيالك يؤكدان الحاجة لمزيد من البحث في الآليات الكامنة وراء هذا التأثير.

لعبة الذاكرة
بدأ علماء النفس يتحرون تأثير اللغة الاجنبية على نفسية الإنسان؛ ومن ذلك- موضوع تأملات نابوكوف. يضع الإنسان شفرة لذكرياته باستخدام روايات لفظية، وكلمات معينة تثير ارتباطات محددة مرتبطة بحدث ما. ونتيجة لذلك قد تبدو ذكريات الطفولة أقل حيوية حينما يستذكرها المرء باستخدام لغة تعلمها لاحقا في حياته.  
هذا قد يكون عائقا أمام من يكتب ذكريات بلغة أجنبية.. ولكن من الجانب الإيجابي، يمكن أن يساعد الناس على معالجة الأحداث المؤلمة؛ فالاشخاص الذين تذكروا أحداثا أليمة في الطفولة بلغة مختلفة أظهروا محنة عاطفية أقل من أولئك الذين رووا الحدث بلغتهم الأم. وأظهرت دراسة كايزر أن "تأثير اللغة الاجنبية" يمكنه أن يثبط خلق ذكريات كاذبة. إذ توصلت الدراسات إلى أن الإنسان يميل لتجنب الوقوع تحت تأثير الايحاء وما يقود إليه من أخطاء في الذاكرة حين يتعاطى إختبارات بلغة ثانية.
يرى كايزر أن الإنسان يستخدم إسلوب تفكير أكثر حذرا وتدبرا حينما يفكر بلغته الاجنبية؛ قائلا: "على الإنسان حينها التأكد أن ما سيقوله وطريقة فهمه للأشياء ستكون صحيحة". وهذا ينطبق أيضا على طريقة مراقبة الإنسان لذكرياته؛ مما يقوده للتأكد من دقة تلك الذكريات بدلا من سرد الاشياء ببساطة كيفما ترد إلى ذهنه.
وقد يمتد "تأثير اللغة الاجنبية" إلى عناصر في شخصياتنا؛ حيث اختبرت د. "سلفيا بيربوري" من جامعة ترينتو الايطالية جانب "التساهل مع الغموض"؛ والذي يتعلق بتقدير الناس للشكوك واستعدادهم للدخول في مواقف غير مألوفة.
 وهذا يمكن أن يؤثر على تصرفاتنا في بيئة عمل متغيرة، كما تقول: "يُظهِر الاشخاص الذين يتمتعون بمستويات عالية من التفاعل مع الغموض قدرا أكبر من المرونة والقدرة على التكيف؛ مما يؤدي لتكوين بيئة عمل أكثر انسجاما وأداء ناجح بشكل عام". ولدى توظيف أشخاص يتحدثون لغة ثانية (بجانب الايطالية) كان من الطبيعي أن يسجل أولئك الأشخاص درجات أعلى في هذه السمة عندما احتاجوا لاستخدام لغتهم
الثانية.

المرونة الفكرية
في عالم اليوم الذي يتسم بالعولمة بشكل متزايد، يستخدم العديد من الأشخاص لغتين أو أكثر بانتظام في حياتهم اليومية. ومع ذلك قد لا يدركون تماما كيف يمكن أن يؤثر ذلك في تفكيرهم؛ كما يقول كايزر: "يحتاج الإنسان أن يُدرك بأنه حين يختار استخدام لغة واحدة على أخرى؛ فسيكون لذلك تأثير منهجي على نتائج
ما يفعلونه".
ما زال الأمر يتطلب المزيد من الدراسات لاختبار حدود "تأثير اللغة الأجنبية" والحالات التي قد يكون فيها ذلك التأثير عكسيا. لكنه قد يكون تأثيرا نافعا لتبديل العقليات؛ مما يسمح لنا بأن نكون أكثر تجردا وموضوعية ومرونة في تفكيرنا.. هنا يكون لوصف مشكلة ما باللغة الثانية تأثير يُهدئ المخاوف والقلق. كما أن قراءة موضوع ما باللغة الثانية، وحين يكون القارئ متفتح الذهن إلى الحقائق المعروضة؛ ستقل احتمالية التأثر بسهولة برد الفعل الغريزي الفوري.
لمن يتحدثون بالفعل لغة ثانية؛ قد يكون هذا جائزة غير متوقعة لجهد التعلُّم. ولمن لا يتحدثون لغة ثانية؛ قد تكون الدراسات حافزا لتعلمها.. لعل تجربة "نابوكوف" أمرا استثنائيا؛ لكننا جميعا يمكن أن نمُرَ بتحولات مصغرة عندما نغمرعقولنا بكلمات وتعابير ثقافة أخرى.

صحيفة الاوبزرفر البريطانية