من روائع الدارمي العراقي قديماً وحديثاً

ثقافة شعبية 2023/11/30
...

 شكر حاجم الصالحي

استمتعت بقراءة هذا الإصدار الجديد الذي (صنعه) الشاعر المثابر كامل منصور الكعبي، وبذل في جمع مادته جهداً كبيراً، من خلال التقصي والبحث والمكاتبة مع أهل الشأن في موضوعه، ويأتي اصداره هذا في وقت تضاءل الاهتمام فيه بالأدب الشعبي، وتوقف باحثوه عن الكتابة، مضافاً إلى ذلك تراجع مجلتنا الرائدة التراث الشعبي. وجعلها فصلية ونصف سنوية بعد أن كانت شهرية مضيئة بالدراسات الفولكلورية وفنون الادب الشعبي، لكن كامل منصور الكعبي يمنحنا بعض الأمل بعودته للحرث في هذا الحقل الحيوي.
الجدير بالاهتمام بغض النظر عن المعوقات والظروف الطارئة، التي تركت بصماتها السلبية على مجمل انشطتنا الجمالية...

وعن اصل تسمية الدارمي يستل (الصانع) المثابر رأياً للدكتور هاشم الفريجي الذي يقول فيه:

الدارمي نسبة لقبيلة بني دارم العربية في جنوب العراق متمثلة بـ فرج دارم بن عمارة، الذي هو الجد الأكبر لعشائر الفريجات الشيخ عمارة، الذي هو من بنى مدينة العمارة ميسان... ص 10 

في حين يرى الباحث محمد الخالدي غير ما يرى الفريجي إذ يقول:

الدارمي، قصيدة قصيرة جداً، لكنها عميقة بمعانيها، جزلة بألفاظها، أما أصل تسميتها فبرأينا ان ذلك له صلة وثيقة بالمعنى اللغوي (درم)، وهي دلالة تقترب من المعنى الاصلاحي الذي تعارف عليه الشعراء الشعبيون والباحثون، فـ (الدرمان) في اللغة تعني (تقارب الخطو)، وبذلك سميّ الرجل (دارماً) و (الدرمة) أي المرأة القصيرة، لذا فاننا نرجح ان يكون لقصر الدارمي سببٌ مباشرٌ في أصل هذه التسمية... ص 186،

وهناك كما يشير بعض الباحثين إلى أن الدارمي هو ((غزل البنات)) و ((شعر البنات)) وما إلى ذلك من التسميات وذكره المؤرخ عبد الرزاق الحسني في كتابه (الأغاني الشعبية) الصادر عام 1929، كما ذكره ايضاً الشاعر معروف الرصافي في كتابه (الأدب الرفيع)، اذ أورد هذا البيت على لسان إحدى نساء ميسان.

        لا عبره وانطي افلوس لابيّه افوجن

        مثل أم ولد غركان ظليت  ألوجن 

ومن جميل ما (صنعه) الشاعر الكعبي توثيقه لنصوص ما يقرب من تسعين شاعراً من القدماء والمحدثين وبذلك وفر للدارس مجموعة كبيرة يستطيع من خلالها قراءة الحياة الاجتماعية ومتشابكاتها من قيم وموروثات تعينه على الاستكشاف والبحث، وأزعم أن الشاعر كامل الكعبي أسدى جميلاً لقراء كتابه بإيراد سبعة و ثلاثين نصاً من الدارمي برواية المؤرخ الحسني ومنها:

       كلبي صعد للغيم شبهك يدخان

      انصب روايا السود عا لعاشر وخان

و...

       مثل الحرامي اهواي        من لمس حجلي 

      سوده ضربته حيل          لبّالــــي  رجلي

وفي هذين النصين نجد المعاناة والألم التي تتكبدها المرأة العاشقة التي تزوجت قسراً ممن لا تحبه، ولذا ظلت تحلم وتتمنى الوصال بمن احبته، وهكذا يلخص الدارمي العراقي بامكاناته اللغوية الموجزة عن حياة غنية بالعبر والدروس، ومما يؤكد ان اغلب نصوص الدارمي قيل على لسان المرأة المضطهدة اجتماعياً بفعل القيم والتقاليد، التي عفا عليها الزمن وصارت في عداد الذكريات في زمننا هذا الذي نعيش فيه وعي المرأة وانتزاعها لبعض حقوقها وانسانيتها وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي وما أحدثته من انتقالات نوعية في حياة الناس ومعتقداتهم ومن النماذج الرصينة التي اختارها الشاعر كامل منصور الكعبي في كتابه هذا عشرة ابيات من الدارمي للشاعر المعروف الملا منفي التي اوردها في كتاب الفراتيات، الذي اصدره عن مطبعة الأيام/ بغداد عام 1936 ومما اختاره الكعبي هذه الأبيات للملا منفي العبد العباس الحلي النشأة قوله:

            شنهو السبب يا عين    دومج ترفين

           يمكن أحباب اليوم      صاروا بعيدين

و...

          دمعي يحلو الطول     خضّب الخمسه

         ولا مثل نوحي اعليك   ناحت الخنسه

واستثمار الرمز التاريخي الخنساء العربية والرثاء الذي قالته بحق أبنائها واخوتها يؤكدان أن الملا منفي كان على معرفة بالتاريخ وامجاد فرسانه وحوادثه الكبيرة... ويمضي كامل الكعبي في اختياراته وفق ذائقته، فيورد نصوصاً جميلة لمعظم الشعراء الذين عاصرهم، وقد أحصيت مختاراته من الدارمي التي بلغت ما يقارب التسعين بيتاً من اجمل ما قاله ناظموه ومن بين ما اختاره هذه الدارميات للشاعر الحلي المعروف عبد الصاحب عبيد (رحمه الله) يقول فيها :

          ما حسبّت بهواك         تنشبني علّه

         وسفه الهجر مدريت       يشكر تسلّه

                        ............

         همّ بيه كبل الموت       يا لجنت أهم بيك

        حل وكـت المجازاة       يا لكلت اجازيك

ومن الجدير بالذكر ان الشاعر كامل منصور الكعبي ألحق محتويات كتابه هذا بدراستين، الأولى الدارمي الجذور التاريخية والوزن والقافية ــ ص 171 ــ ص 178 دونها الدكتور هاشم الفريجي والثانية بعنوان ــ فن الدارمي العراقي ــ ص 179 ــ ص 186 ــ للباحث الشاعر محمد الخالدي. وفي الختام... أعتقد أن الشاعر كامل منصور الكعبي سيعيد طباعة منجزه وما صنعه طبعات قادمة، لكني اتمنى عليه ان يعالج الهنات الطباعية والإملائية التي اعتورت نصوصه الجميلة هذه بعرضها قبل الشروع بطبعة جديدة على فاحص لغوي حريص على سلامة اللغة وجمالياتها.