مشاريع للعيش في صحراء الأردن السوداء

بانوراما 2023/12/03
...

  ماثيو بيتي و جاك بيرسون
  ترجمة: مي اسماعيل

رغم أنها أقل شهرة من المناطق الأثرية الأردنية الاخرى مثل البتراء و{أعمدة الحكمة}؛ لكن الصحراء السوداء تقدم لآلاف الزوار سنويا عرضا لملايين السنين من التاريخ الطبيعي والبشري؛ غير أن هذا قد يتغير بوجود مخطط لبناء عاصمة جديدة على حافة الصحراء. على بُعد نحو ثلاثين كيلومترا من {قصر مشاش}؛ وهو موقع روماني متقدم على الضواحي الغربية لمدينة عمان، وموقع العاصمة الأردنية الجديدة المقترحة؛ تحولت تلال الشام المتموجة إلى صحراء بركانية سوداء منبسطة. وعلى مسافة ليست بالبعيدة توجد محميتا {الأزرق} للأراضي الرطبة و{الشومري} للحياة البرية. إنها الصحراء السوداء في الأردن، التي تعرف ايضا باسم {حرة الشام}؛ حيث حاولت حضارات متعاقبة ترويض تلك الارض الصعبة..
على الطريق هناك أطلال رومانية وهياكل كونكريتية نصف مكتملة، ومناطق عسكرية ومخيمات لاجئين، وبعد مسافة غير معينة تبتلع الصحراء أي وجود للانسان؛ فلا يكاد يعيش هناك أحد إلا بعض البدو الرُّحل، الذين يجوبون مناطق صيد انسان العصر الحجري؛ حيث كان الصيادون يضعون أسوارا لصيد الحيوانات منذ آلاف السنين. كما توجد (على الحجر) النقوش الصفائية القديمة، المكتوبة باللهجة العربية التي سبقت ظهور الإسلام. قد تتغير تلك المعطيات اذا ما نفذت الحكومة الاردنية خطتها لإقامة مدينة جديدة؛ إذ يهدف المشروع لخلق عاصمة جديدة على حدود الصحراء بحلول العام 2050، وباستخدام الارض زهيدة الثمن لجذب سكان عمان للخروج من وسط المدينة المزدحم. يُشكك بعض الخبراء بتلك الخطة؛ إذ إن مصدر المياه الوحيد في الصحراء السوداء، وهي “واحة الأزرق”؛ سبق لها التعرض للجفاف بسبب الضخ المكثف، وتوَجّب إعادة ملئها صناعيا. وربما يُغير المشروع الى الأبد الطبيعة الغريبة لتلك الصحراء؛ ولكن اذا اخذنا بالاعتبار المصاعب التي تواجهها الاردن لتوفير المياه؛ قد تصبح تلك المدينة الجديدة أيضا مجرد نُصب مهجور آخر كمثال على قسوة الصحراء.

“قلاع الصحراء”
المملكة الاردنية الحديثة ليست الأولى التي تحاول الاستيطان في هذه المنطقة؛ فتلك الصحراء مليئة بما يُسمى “قلاع الصحراء”؛ وهي مجموعات من الهياكل التي شُيدت ما بين أواخر العصر الروماني وأوائل العصر الإسلامي. يعود الاصل التاريخي لتسميتها “القصر” باللغة العربية الى الجذر اللاتيني نفسه لكلمة “قلعة”. أما استخداماتها، أو ما إذا شيدت جميعا للغرض نفسه؛ فما زال تساؤلا يناقشه علماء الآثار. كانت الصحراء السوداء في التاريخ القديم على الحدود بين الامبراطوريتين الرومانية والفارسية، وشهدت نحو خمسة قرون من القتال العنيف قبل أن تقوم الخلافة الإسلامية بطرد القوتين العظميين من المنطقة. ولعل قصور الصحراء تلك كانت قواعد عسكرية أو مراكز تجارية أو نُزُل صيد أو مزيجا من الثلاثة..
لاحظت عالمة الآثار “كارين بارتيل” عام 2016 أن توقيع قصور الصحراء تلك يشي أنها كانت على الأغلب محطات على طريق المسافرين. وحين جرى وضعها على الخرائط تبيَّن أنها توفر “مسافة سفر مريحة ليوم واحد، على طريق يبلغ طوله نحو 100 كيلومتر بين عمان وواحة الأزرق”، كما كتبت.. وبعبارة أخرى، ربما كانت المباني القديمة مثل محطات خدمة الطرق السريعة الحديثة، التي يستخدمها السياح الآن؛ رغم أن رحلات اليوم تستغرق ساعات بدلا من أيام.
حتى العصر الحديث كانت قبائل البدو تهيمن على المنطقة، مع أعداد قليلة من مستوطني الدروز والشيشان القادمين من أرجاء الامبراطورية العثمانية الى واحة الأزرق خلال القرن التاسع عشر. يرى الدكتور “مراد الكلالدة” المحاضر بقسم الهندسة المعمارية في جامعة البلقاء التطبيقية/ الأردن أن وجود البدو كان..”حضورا سياسيا”؛ لأنهم (كما يقول): “لم يرغبوا ان يتركوا تلك المنطقة الشاسعة بلا سيطرة”. ومضى الدكتور مراد شارحا أن السيطرة حتى على تلك الأراضي الجرداء أعطى للقبائل نفوذا على مصادر المياه وطرق القوافل؛  سواء قوافل التجارة أو الحملات العسكرية أو الحج. لذا نمت مدن مثل مستوطنة الدروز والشيشان في الأزرق.. “لتقدم الخدمات للبدو” وتوفر لهم سلعا مُصنّعة واحتياجات اخرى. وكلما توغل المرء في الصحراء؛ تختفي المدن تماما ولا يتبقى إلا مواقع مخيمات البدو والسياح الأكثر حبا للمغامرة. ولكن حتى في أعماق البرية توجد علامات على استيطان قديم للإنسان، وتتميز المنطقة بالنقوش الصخرية الصفائية والمصائد الصحراوية (= حجارة مرصوفة على نحو دائري تمتد لكيلومترات في صحراء الشام ومجمل الجزيرة العربية. يرجع تاريخ بنائها إلى ما بين 3000 و5000 عام. المترجمة، عن موسوعة ويكبيديا).

فن على الصخور
يعدُّ الفن البدائي المرسوم على الصخور.. “متحفا في الهواء الطلق يروي تاريخ أجدادنا”؛ كما تقول “روان العدوان”؛ الفنانة الأردنية التي استلهمت أعمالها من هذه النقوش. وتلاحظ “روان” أن تلك الرسوم تشي بعالم مختلف أقل جفافا من اليوم؛ إذ توجد رسوم لأسود وخيول ونعام في مناطق لم يعد بإلامكان وجود مثل تلك الحيوانات فيها؛ بسبب الاحترار والتغير المناخي. وأصبحت تغيرات المشهد البيئي أكثر قسوة خلال العقود القليلة الماضية بسبب النمو السكاني السريع في الأردن. وبسبب كونه أحد أكثر البلدان، التي تعاني من ندرة المياه في العالم؛ قام الأردن بسحب المياه الجوفية بشكل مفرط؛ إلى درجة أن المسطحات المائية حول واحة الأزرق ( وحتى بعد إعادة ضخ المياه اصطناعيا مرة أخرى إلى الأراضي الرطبة) بات حجمها لا يتجاوز أربعة بالألف من حجمها التاريخي. أغلب كمية المياه المسحوبة كانت لخدمة العاصمة عمّان؛ التي تضاعف عدد سكانها بين أعوام 1975 و2000، ومرة أخرى بين عامي 2000 و2020. والآن تأتي ربع كمية الماء اللازمة للعاصمة من منطقة الازرق.
تلك الزيادة السكانية أدت ايضا إلى إجهاد البنية التحتية، ويهدف مشروع المدينة الجديدة إلى إنشاء بديل للعاصمة أكثر كفاءة وأقل ازدحاما. وإذا سارت الأمور وفق ما هو مخطط، فسيجري أيضا نقل الوزارات الحكومية من عمّان إلى المدينة الجديدة.
تكمن جاذبية المدينة الجديدة في فراغ الأرض ذاتها؛ ويقول الدكتور الكلالدة إن هذا الجزء بالذات من الصحراء السوداء هو من المناطق التي تبقى فيها.. “أقل نفوذا قبليا للبدو”. ونظرا لكون تلك المنطقة غير مأهولة على الغالب؛ تخطط السلطات لتمويل المشروع عن طريق تقديم قطع أراضٍ فارغة بثمن قليل للمطورين. وقال وزير الاتصال الحكومي بالحكومة الاردنية “فيصل الشبول” لوسائل الإعلام المحلية إن الدولة لن تضطر للحصول على أي قرض لبناء المدينة الجديدة. ويجادل الكلالدة ان تلك الخطة متناقضة؛ لأن الفراغ يعني أيضا عدم وجود “أنشطة خاصة بالموقع” لجذب المستثمرين؛ لا موارد طبيعية لاستغلالها، ولا مناطق صناعية كبرى لخدمتها، ولا مياه جوفية للزراعة؛ ولذا يعتقد ان على الحكومة التركيز على توسيع المدن الموجودة بالفعل في المحافظة.

محميات طبيعيَّة
لعل قيمة الصحراء السوداء تكمن حقيقة في تركها دون مساس.. فالصحراء الشرقية موطن أربع من محميات الاردن الطبيعية الاثنتي عشرة، والكثير من مواطن الجمال الطبيعي للمملكة. في محمية “الشومري” للحياة البرية نرى الغزال والحمار الوحشي وآخر مجموعة معروفة من حيوان المها العربي في الأردن. وتجتمع جواميس الماء والطيور المهاجرة في واحة الأزرق القريبة، معتمدة للبقاء على المياه المحدودة التي يتم ضخها مرة أخرى إلى أرض المناطق المحمية كل عام. بعد تلك الواحة وداخل الصحراء توجد محمية “الضاحك” الطبيعية، المعروفة بنقوشها الصفائية القديمة إضافة لتلالها البيضاء المذهلة، التي تتناقض مع حقول البازلت الداكنة للصحراء السوداء. تعتقد الفنانة روان ان موقع نماذج الكتابات الصفائية القصي داخل الصحراء (والذي يتطلب أحيانا ترك المسالك المطروقة إلى أخرى غير مألوفة) يجعلها وجهة جذابة للسياح المغامرين؛ طالما جرى الحفاظ عليها بصورة صحيحة.
كانت واحة الازرق كبيرة الى حد ذهاب الأردنيين من العاصمة اليها لصيد السمك والسباحة. لكن سحب المياه الجوفية المفرط منها أدى بالواحة الى الإستنزاف التام بحلول العام 1993. وتريد “الجمعية الملكية لحماية الطبيعة” أن تعيد منطقة الاراضي الرطبة الى نحو عشرة بالمئة من حجمها التاريخي على الاقل. ووفقا لما هو مُعلن موقعيا؛ وافقت وزارة المياه على ضخ نحو مليون ونصف مليون متر مكعب من المياه سنويا الى الواحة لمساعدتها على التعافي. تتأرجح الأردن بين رأيين تجاه الصحراء السوداء: استغلالها أو الحفاظ عليها. ويمكن القول إن السياحة وسيلة وسطية تسمح للدولة بالاستفادة الاقتصادية من جهودها البيئية.

موقع بي بي سي البريطانية