هل تستطيع أميركا منافسة المبادرة الصينيَّة؟

بانوراما 2023/12/04
...

 ماكسمليان ماير وجيداليا افترمان ونارايانابا جاناردان  
 ترجمة: أنيس الصفار   


بعد عشر سنوات من إعلان الرئيس الصيني {شي جنبنغ} عن {مبادرة الحزام والطريق} في كازاخستان واندونيسيا كشف النقاب في شهر أيلول الماضي خلال مؤتمر مجموعة العشرين بنيودلهي عن مبادرة ربط جديدة تضم الولايات المتحدة والهند ودول الخليج العربية والدول
الأوروبية.  جرى الكشف عن المبادرة الجديدة بغياب الرئيسين الروسي والصيني؛ لذا أثار الأمر تأويلات متضاربة حيث رأى البعض أنها ستكون بديلا مستقبلياً محتملا لمبادرة الحزام والطريق بينما رأى آخرون أن المبادرة مجرّد نمر من ورق، مستشهدين على رأيهم بفشل مشاريع مشابهة سبق أن دعمتها القوى الغربيَّة في
الماضي.  
مرامي المشروع الجديد هائلة، ولو أن بعض التفاصيل لا تزال مفقودة، فهو يسلك مساراً يمر بمناطق عدة كما أوضح بيان البيت الأبيض الذي قال: "عبر هذا الممر الاقتصادي من خلال الهند والشرق الأوسط وأوروبا نهدف إلى دخول عصر جديد من الربط السككي يمر عبر الموانئ إلى أن يصل أوروبا بالشرق الأوسط وآسيا".

فكرة الممر ومآرب الشركاء
ترجع فكرة هذا الممر إلى العام 2021 عندما جرت مناقشتها كجزء من مجموعة "آي 2 يو2" (وهي مجموعة للتعاون الاقتصادي الحكومي الدولي تضم الهند واسرائيل والامارات العربية المتحدة والولايات المتحدة).
الرؤية التصميميَّة للمشروع تتبنى منطق الممر، مثلها مثل مبادرة الحزام والطريق، وهذا ليس مفاجئاً لأنَّ "مبدأ الممر" هو التجسيد المكاني الأهم لرأسمالية البنى التحتية والاقتصاد الجغرافي منذ مطلع هذا القرن.
من الممكن النظر إلى "مبدأ الممر"، الذي يعد جزءاً من فضاء "التعدديَّة" المزدهر، باعتباره شيئاً لا يخلو من تناقض لأن القوى الواقعة في الوسط ستبقى تحاول المناورة بين كتلتين جيوسياسيتين متشددتين.
بيد أنَّ العملية الجارية لإعادة تشكيل ارتباطات سلسلة التجهيز العالميَّة الجارية التي أفرزتها عقود من العولمة يمكن أن تجعله اقتراحاً قابلاً للتطبيق.
يبدو من حيث الظاهر أنَّ "مبادرة الحزام والطريق" و"الممر الاقتصادي عبر الهند والشرق الأوسط وأوروبا"، تشتركان بعدد من الأهداف المتشابهة، بيد أنَّ هناك ايضاً اختلافات جغرافية حساسة.
النقطة الأهم هي أنَّ المبادرة الجديدة تبرز دور الهند، التي لم يسبق لها قط أن كانت جزءاً من "مبادرة الحزام والطريق"، كلاعب مركزي عبر إقليمي في خضم إعادة ترتيب التصورات الجغرافية.
كل طرف من أطراف المبادرة الجديدة سيأتي حاملاً معه منظوراته ومصالحه الخاصة.
فبالنسبة للولايات المتحدة تصلح "آي 2 يو2" و"الممر الاقتصادي عبر الهند والشرق الأوسط وأوروبا" كمنصتين للاستثمار في البنى التحتية تجمعان الشركاء من الشرق الأوسط وجنوب آسيا معاً وتوفران بديلاً عن المشاريع الصينيَّة.
ترى واشنطن في هذا النهج فرصة لتشجيع شركائها الإقلميين على الاضطلاع بدور أكثر نشاطاً واستقلالاً في تشكيل مستقبل المنطقة، وبذلك يسمحون للولايات المتحدة بخفض استثمار مواردها مع الاحتفاظ في الوقت نفسه بحضورها ونفوذها.
أما بالنسبة لدولتي الامارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية فإنّ هدفهما يتمثل بتعزيز دبلوماسيتهما الاقتصادية التي تميل بشكل متزايد نحو التنوع وتعدد الشبكات لتغطية رقعة جغرافية أكبر.
كلتا الدولتين المذكورتين عضو نشط في "مبادرة الحزام والطريق" وتعاونهما مع الصين مستمر بالتنامي في حين أنهما، وبمعزل عن تجارتهما المزدهرة، شريكا حوار في "منظمة شانغهاي للتعاون" وسوف تصبحان عما قريب عضوين كاملي العضوية في مجموعة "بركس" الموسّعة (التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب افريقيا).
كلتا الدولتين تحاولان التوسّع في استقلالهما الستراتيجي وتتنافسان لتصبحا لاعبتين مؤثرتين اقليميا ودولياً.
لذا فإنّ الانخراط في تجمعات جديدة مصغّرة قليلة الأطراف يمثل تكويناً اساسياً في بنية نهجهما لتعزيز مكانتهما كقوتين وسطيتين.
وإذ تنفتح المملكة السعودية على العالم، مع ميل باتجاه الصين، وجدت دولة الإمارات العربية أنّ نقطة تفرّدها الجديدة لتسويق نفسها هي الربط وتعددية التحالفات.
ورغم بقاء التباعد بين هذين النهجين مبعثاً للقلق أزاء القضايا الجيوستراتيجية والاقليمية، لا سيما قوة الصين المتصاعدة ونفوذها على صعيد العالم، فإنّ مشاركة دول الخليج العربية في مبادرات تتولى قيادتها الولايات المتحدة يعكس ميلها الجديد إلى الحفاظ على مسافة متساوية تجاه التنافس القائم بين الولايات المتحدة والصين.

الولايات المتحدة والنفوذ الصيني
قد ترى الولايات المتحدة في "الممر الاقتصادي عبر الهند والشرق الأوسط وأوروبا" وسيلة تمكنها من مواجهة نفوذ الصين المتعاظم في المنطقة، لكن التنافس والتقارب في الشرق الأوسط أمران اكثر تداخلاً وأقل تضاداً مع بعضهما مما قد توحي به ثنائية القطب الأميركية الصينية المتصاعدة.
فإذا كانت الولايات المتحدة ترجو لهذا المشروع أن يكون مقابلاً وبديلاً لمبادرة الحزام والطريق في المنطقة فإنّها على الأرجح ستمنى بخيبة أمل، لأنّ المنافسة يمكن أن تتصاعد في المحيط الهندي ولكن التعاضد والتقارب المحتملين لا بدّ أن يبقيا حيزاً للتكيف المتبادل بدرجة من الدرجات.
تعرض الهند، التي تعاملها الولايات المتحدة على أنّها شريك لا غنى عنه، نموذجاً تطبيقياً لتعدد التحالفات يصلح لأن يقتدي به الآخرون.
فالهند عضو في "الرباعيّة" وفي مجموعة "آي 2 يو2"-اللتان تضمان الولايات المتحدة- وهي في الوقت نفسه عضو في مجموعة "بركس" وفي "منظمة شانغهاي للتعاون"- اللتين تضمان الصين- رغم خلافات نيودلهي مع بكين بشأن مسألة الحدود.
يضيف "الممر الاقتصادي عبر الهند والشرق الأوسط وأوروبا" خيطاً آخر إلى سياسته متعددة التحالفات التي استقرَّ عليها منذ وقت طويل، كما يبرز ملامح ممر الارتباط الآخر الذي تروّج له الهند، أي "ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب" مع إيران وروسيا.
هذه المشاريع مجتمعة تضفي قيمة أخرى إلى قصّة التنمية في الهند التي تزهو بكونها أسرع الاقتصادات نمواً في العالم.
يضع الممر الاقتصادي الجديد في منظوراته احتمال اضافة اسرائيل مستقبلاً، وهذا ينبغي النظر اليه على أنه خطوة في المساعي الأميركية المتجددة لتوسيع اتفاقات ابراهام من خلال تسهيل عملية تطبيع العلاقات الاسرائيلية السعودية.
هذا النمط من التعاطي الاقليمي يسمح ايضاً لاسرائيل بأن تتعامل مع التوترات مع الولايات المتحدة والامارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية في أعقاب سياسات تحالف اليمين المتطرف الذي يقوده رئيس الوزراء "بنيامين نتانياهو".  
بالنسبة لاسرائيل والولايات المتحدة يبقى توسيع اتفاقيات ابراهام، لا سيما شمول المملكة العربية السعودية بها، على رأس الأولويات رغم اصرار الرياض على ربط عملية تطبيع العلاقات بالتقدم في مسألة حل الدولتين.
وهناك مؤشرات حذرة على أن نتانياهو قد يوافق على تقديم بعض التنازلات على الجبهة الفلسطينية وإن جاء ذلك على حساب تفكك ائتلافه مع الجناح اليميني من اجل استخراج النفع من دمج اسرائيل الأوسع اقليميا وإدامته.
بالنسبة للصين، التي ستستضيف قريباً في بكين أول قمة لمبادرة الحزام والطريق بالحضور الشخصي بعد الاغلاق الكبير الذي تسببت به جائحة كوفيد، سيفرض "الممر الاقتصادي عبر الهند والشرق الأوسط وأوروبا" تحدياً ويفتح باباً لفرصة.
فالصين من ناحية قادرة على التعامل معه باستهانة مثلما فعلت الولايات المتحدة مع مبادرة الحزام والطريق، أو أن تلجأ إلى الخيار الثاني الذي أشير اليه بعد مؤتمر قمة العشرين مباشرة، وهو ابداء انفتاحها على دعم الارتباط متعدد الاتجاهات، حتى لو لم يكن جزءاً من مبادرة الممر، طالما بقيت امثال تلك المشاريع "مفتوحة وشاملة وتبني تعاضداً" من دون التحول إلى "أدوات جيوسياسية".

أوروبا.. الحلقة الأخيرة
الحلقة الأخيرة في ملحمة الاتصال الجديدة هذه ستكون أوروبا، لا سيما دول شرق البحر الأبيض المتوسط.
فالممر الاقتصادي عبر الهند والشرق الأوسط وأوروبا سيكون تطوراً مرحباً به لأنَّ "البوابة العالميَّة"، وهو مشروع الاتصال الذي طرحه الاتحاد الأوروبي، لم يكتسب زخماً كافياً بسبب التردد الذي ابداه الدبلوماسيون الأوروبيون في بروكسل بشأن الستراتجيات متعددة التحالفات والممرات العابرة للأقاليم.
لئن يكن "الممر الاقتصادي عبر الهند والشرق الأوسط وأوروبا" تفاعلاً اقتصادياً دبلوماسياً أمنياً متبادلاً فإن آفاقه ستبقى مرهونة بقدرته على إشاعة الارتباط وترجمة امكانياته الاقتصادية المستقبلية إلى نجاحات تجارية.
يشير المنتقدون منذ الآن إلى أن المبادرة قد لا تكون قابلة للنجاح عند أخذها بمقياس الربح، ولكن يمكن القول ايضاً أن هناك مزايا أخرى عدا الكفاءة الاقتصادية.
ففي عالم يتسم بتجنب المجازفة والتحولات التي تحدث في سلاسل التجهيز المطروحة سياسياً يمكن اعتبار الممر الجديد وسيلة لتعزيز مرونة التحمل الستراتيجي ودعم الصداقة والتعاون التكنولوجي، لا سيما لدى قوى الوسط.

عن مجلة {رسبونسبل ستيتكرافت}