حقائق عن الذَّهب القاتل
فابيان فيدرل وجاك نيكاس
ترجمة: أنيس الصفار
وقف {جيوفاني دي جيسوس أغويار} غارقاً وسط الوحل حتى ركبتيه داخل الحفرة التي شقها في أرض غابات الأمازون المطرية بطول 100 ياردة (91 متراً) .. كان يصفي الماء البني من طبق في يده يشبه المقلاة حين لاحت له قشرة لامعة صغيرة من المعدن الذي يبحث عنه.. معدن مزيج من الذهب والزئبق.
كدأبه كل بضعة أيام، كان أغويار قد رش رذاذ الزئبق السائل على أرض منجمه المؤقت الذي أقامه لاستخراج الذهب عند الحافة الشرقية من دولة سورينام الصغيرة في أميركا الجنوبية، حيث يمتزج هذا العنصر السام بغبار الذهب ليشكلا معاً ملغماً يمكن انتزاعه من الوحل ككتلة واحدة ومن بعد ذلك يسلط على المزيج لهبا يحرق الزئبق ويبخره في الهواء لتحمله الرياح وتنشره عبر الغابة إلى ما وراء الحدود؛ مسمماً النبات والحيوان والبشر حيثما صادفهم.
ما يتخلف بعد هذه العملية هو الذهب الصافي، وهذا ينتهي به المآل عادة إلى أوروبا والولايات المتحدة ومنطقة الخليج ليتحول معظمه إلى مصوغات وحلي نفيسة.
على مبعدة عشرين دقيقة مع مجرى النهر يقع مجتمع "وايانا" للسكان الاصليين الذين بدأوا يتساقطون مرضى منذ مدة. يعيش هؤلاء الأهالي على لحوم الاسماك التي يصطادونها من النهر يوماً بيوم، ولكن العديد منهم أخذوا يعانون في السنوات الأخيرة من آلام المفاصل ووهن العضلات والتورم. ويقولون إن التشوهات الولادية آخذة بالازدياد هي
الأخرى.
تظهر الفحوص المختبرية أن دماء أهالي "وايانا" تحتوي على مستويات من الزئبق تفوق النسبة المقبولة طبياً بضعفين أو ثلاثة أضعاف. وفي حزيران الماضي قالت "لينيا أوبويا" وهي تقلب كفيها اللذين صارا يؤلمانها جراء الطعام الذي تتنأوله: "هناك أنواع معينة من الاسماك لم يعد مسموحاً لنا تنأولها، ولكن ليس هناك بديل وهذا هو ما كنا نأكله دائماً."في العام 2013، وبعد تحقق الاجماع العلمي على مستوى العالم أن الزئبق يسبب تلف الدماغ وأمراضاً شديدة أخرى وتشوهات ولادية، وقعت معظم دول العالم على معاهدة رائدة تلتزم بموجبها بالتوقف عن استخدامه على نطاق عالمي.
رغم هذا، وبعد مرور 10 سنوات على تلك المعاهدة، لا يزال الزئبق آفة ووبالاً حيث أصاب آلاف الاطفال في اندونيسيا بأضرار خطيرة، ولوّث الانهار المارة عبر أنحاء الأمازون؛ متسبباً بأزمة إنسانية لأكبر قبيلة معزولة في
البرازيل.
ولا يزال الاطباء في كل مكان من العالم يحذرون من الاكثار من تنأول أنواع معينة من الاسماك بسبب المعدن السام الذي يطفو في مياه المحيط ويدخل إلى أجسامها عندما تمتصه سلسلة الغذاء.
معادلة الفقر والذهب
سورينام دولة تكسوها الغابات يبلغ تعداد سكانها 620 ألف نسمة تقع عند الحافة الشمالية من قارة أميركا الجنوبية، لكنها تمثل حالة نموذجية لدراسة الكيفية التي أصبح الزئبق فيها تكويناً مستعصياً يصعب التخلص منه، والسبب في هذا إلى حد كبير هو نهم الإنسان الذي لا يشبع إلى
الذهب.
على مر العقود، تسبب الزئبق بتسميم الكثير من سكان سورينام، فمن بين كل خمس حالات ولادة هناك واحدة تأتي مصحوبة بمضاعفات تؤدي إلى الوفاة أو انخفاض وزن المولود أو الإعاقة، وفقاً لإحدى الدراسات، وهذا يسأوي ضعفي المعدل في الولايات المتحدة. بيد أن الزئبق له دور ايضاً في تعزيز اقتصاد البلد حيث يشكل الذهب 85 بالمئة من صادرات سورينام، ومعظمه يستخرج بمعونة
الزئبق.
يقول أغويار، البالغ من العمر 51 عاماً، وهو يقف عند حافة حفرته: "يمكنني العمل بدون الزئبق، ولكن ذلك لن يكون عملاً
مربحاً."
حظرت سورينام الزئبق، لكن المادة بقيت تهرّب رغم هذا بكل سهولة إلى الداخل حيث تستخدم على نطاق واسع. ولم تستجب الحكومة السورينامية لطلباتنا المتكررة للحصول منها على تعليق.
على الرغم من أن الدول الغربية، ومن بينها الولايات المتحدة، قد تخلصت بدرجة كبيرة من الزئبق على مراحل فإن أكثر من 10 ملايين شخص ينتمون إلى 70 بلداً – معظمهم من دول فقيرة في آسيا وافريقيا وأميركا اللاتينية – لا يزالون يستخدمون هذا العنصر السام لاستخراج الذهب من الأرض، وفقاً للأمم المتحدة.
صغار المنقبين هؤلاء ينتجون خمس كميات الذهب في العالم – ومعه ما يقارب خمسي التلوث بالزئبق- وفقاً للأمم المتحدة ووكالة حماية البيئة الأميركية. التنقيب عن الذهب هو المصدر الرئيس لانبعاثات الزئبق، متقدماً على محطات الطاقة الكهربائية التي تعمل بالفحم.
يقول "أخيم شتاينر" رئيس برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة إن هذا هو الوجه البشع للفقر. ويضيف: "الزئبق يمكن أن يؤذيني بعد 10 سنوات، هذه هي الحقيقة ولكنها في نظر كثير من المنقبين نظرة بعيدة جداً عما يفرضه واقع الصراع من أجل البقاء."
يستخدم المنقبون عن الذهب على النطاق الواسع آلات الطرد المركزي أو الزرنيخ، الذي لا يتسرب إلى البيئة، أما صغار المنقبين فيلجؤون إلى الزئبق لأنه متيسر ورخيص وسهل الاستعمال.
يقول "لويس فرناندز"، وهو أستاذ من جامعة "ويك فوريست" أجرى دراسات حول التنقيب عن الذهب على النطاق الضيق: "الزئبق تقنية شديدة البساطة، بغض النظر عن كونها الأحسن أو الأسوأ، وقد كانت تستخدم على مدى الشطر الاعظم من فترة 2000 عام مضت. فأنت تستطيع أن تتعلم كيف تصبح منقباً في ظرف 15 دقيقة، والنتائج التي تحصل عليها تكون جيدة للغاية."
حظر ومعاهدات
هذه الحقيقة زادها تفاقماً ارتفاع أسعار الذهب خلال العام الماضي بنسبة 12 بالمئة إلى ما يقارب 2000 دولار للأونسة الواحدة، وعلى الرغم من أن العديد من الدول قد حظرت استخدام الزئبق في أعمال التعدين يبقى فرض الحظر رخواً، كما يقول السيد فرناندز، الذي يضيف: "استخراج الذهب يعمل بمثابة صمام ضغط اقتصادي بالنسبة للدول الفقيرة."
في العام 2013 وقّع المجتمع الدولي على معاهدة موسعة تقضي بسحب الزئبق من الاسواق. وقد أطلق على تلك المعاهدة اسم "اتفاقية مؤتمر ميناماتا" نسبة إلى اسم المدينة اليابانية التي سببت لها عقود من التلوث الصناعي بالزئبق أمراضاً عصبية أصابت اكثر من 2200 شخص من سكانها، بل بلغ الأمر حد تسببه بتسميم قطط المدينة وجعلهن يرمين بأنفسهن في البحر.
بموجب الاتفاقية – التي صادقت عليها حتى الآن 145 دولة من بينها سورينام – تعهدت الدول الموقعة بحظر إنشاء مناجم جديدة تستخدم الزئبق وإغلاق القائمة منها، كما توقف استيراد وتصدير الزئبق عدا بعض الاستثناءات.
منذ ذلك الحين حظرت الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي تصدير الزئبق كلياً وبذلك بقيت الامارات العربية المتحدة وطاجيكستان وروسيا والمكسيك ونيجيريا من بين اكبر المصدرين للمادة، ويعتقد الباحثون إن الصين، التي صادقت على المعاهدة، لا تزال أكبر مستخدم للزئبق في العالم. بيد أن اتفاقية ميناماتا تغاضت عن المنقبين على النطاق الضيق. يقول شتاينر: "تثبت لنا الأدلة مراراً وتكراراً أنك حين تحظر شيئاً يحتاج إليه الناس بشدة ولا يملكون عنه بديلاً فإنك ببساطة تدفعهم دفعاً إلى الجنوح عن القانون."
حيث يعيش السيد أغويار قرب نهر ماروني، الذي يشكل خط الحدود بين سورينام وغويانا الفرنسية، يعمل الجميع في التنقيب عن الذهب أو لدى منقبين. نحو 15 بالمئة من القوة العاملة في سورينام، أي نحو 18 ألف شخص، ترتبط حياتهم بصناعة التنقيب عن الذهب، وهذه واحدة من اعلى النسب المئوية في العالم وفقاً لدراسات أجرتها جامعة امستردام.
سحر الزئبق لعنته
في المناجم يطلق العمال الماء المضغوط لطرد الرواسب المتولدة واحداث شق في التربة لكشف الطبقة التي يأملون احتوائها على الذهب. بعد ذلك يلقون الزئبق في الماء كي يتحد طبيعياً بأي شذرات من الذهب موجودة أسفلها.
الزئبق لا يصعب الحصول عليه، ويعتقد الخبراء بأن معظمه يأتي من الصين. فقبل ساعات من إلقاء السيد أغويار الزئبق في منجمه، الذي يعمل فيه سبعة عمال، رسا بزورقه قرب دكان لأحد التجار الصينيين الذين يعدون بالعشرات على ضفاف نهر ماروني. هذه الدكاكين تبيع سلعاً لا تتغير من أطعمة وأشربة ومواد للاستخدام الشخصي والزئبق. اشترى أغويار كيلوغراماً محفوظاً في قنينة دواء لا تحمل اية علامات مقابل 250 دولاراً، وإذا ما حالفه الحظ فسوف يكفي هذا الزئبق لاستخراج نصف كيلوغرام من الذهب يمكن بيعه بما يقارب 2500 دولار.
في أماكن أخرى من سورينام ينشر الباعة قوائم عبر منصة فيسبوك أو عن طريق سائقي سيارات الأجرة يعرضون فيها وسطاء وصلات لبيع الزئبق.
ويقول الناس في انحاء البلد إن معظم بائعي الزئبق هم من الصين ويقول المتواصلون مع الباعة الصينيين إن هؤلاء لا يعنيهم كوننا نقوم بعمل مخالف للقانون، فالزئبق بالنسبة لهم منتج لا يختلف عن سواه.
في هذا العام أعلنت منظمة الدول الأميركية أن الزئبق الموجود في سورينام ربما كان يشحن من الصين على متن سفن الحأويات التي تنقل البضائع الاخرى، كمعدات التعدين، ويعتقد الباحثون أن بوليفيا وحدها في منطقة أميركا الجنوبية تستورد الزئبق بشكل
قانوني.
خلال شهر أيار الماضي تحدث الرئيس السورينامي "تشاندري سانتوخي" مع المراسلين فقال: "السؤال هو من أين يأتي ذلك؟ نحن نعلم أنه يدخل عن طريق التهريب."
يقول الدكتور "ولكو زيلمانز" الذي يعمل طبيباً للاطفال في سورينام وأجرى دراسة تنأولت الآثار الصحيَّة للزئبق، إن تأثيراته كانت واضحة. فقد توصلت دراسة أجريت في العام 2020 على 1200 امرأة شارك في معالجتهن إلى أن 97 بالمئة منهن كانت لديهن مستويات غير آمنة من الزئبق في اجسامهن.
إلى جانب المعدلات المرتفعة من مضاعفات الولادة وجد الدكتور زيلمانز ايضاً أن الاطفال في سورينام اليوم كانوا أكثر عرضة لبطء نمو الدماغ وانخفاض مستوى المهارات الحركية ومشكلات في القدرات اللغوية والاجتماعية من الجيل الذي قبلهم.
هناك تأثيرات ايضاً ظهرت عبر الحدود، فمجتمع "وايانا" للسكان الاصليين ينتشر نحو 1000 من افراده في سورينام وغويانا الفرنسية، التي تعتبر أرضاً فرنسية، وهؤلاء يحملون الجنسية الفرنسية. وقد تتبع الأطباء الفرنسيون انتشار آثار الزئبق في بعض قرى هؤلاء التي يحيط بها أكثر من عشرين منجماً للذهب.
تقول السيدة أوبويا، وهي من مجتمع "وايانا" وتعيش في احدى القرى الواقعة على الاراضي الفرنسية: "في نهاية المطاف سيصبح الحال هنا أشبه بميناماتا."
في أعلى النهر، وحين يريد السيد أغويار الحصول على المال، يأخذ كل الذهب الذي جمعه إلى التجار الصينيين الذين باعوه الزئبق. يتوجه هؤلاء التجار بعدئذ إلى مئات دكاكين شراء الذهب الصغيرة المتناثرة في انحاء "باراماريبو" عاصمة سورينام.
يقول صاحب أحد هذه الدكاكين، واسمه آرنالدو ريبييرو"، إنه يشتري كل ما يدخل دكانه من الذهب تقريباً، ولكنه لا يعلم شيئاً عن مصدره أو إن كان قد استخرج باستعمال الزئبق. بعد ذلك يعيد بيع ما اشتراه إلى شركة "كالوتي منتهأوس"، وهو مشروع مشترك بين الحكومة السورينامية ومستورد للذهب مقره في الامارات العربية المتحدة.
يقول ريبييرو متحدثاً عن الذهب الذي يبيعه: "لا يطالبنا أحد بإثبات المصدر الذي جاء منه."
بعد ذلك تعيد شركة "كالوتي منتهأوس" تصدير الذهب بصورة قانونية مشروعة إلى جميع انحاء العالم.
معنى هذا أن ذهباً كالذي يستخرجه السيد أغويار يشحن بعد تنظيفه من بقايا الزئبق ليصبح سبيكة ذهبية أو قلادة أو ربما خاتم زفاف ومعه كافة الوثائق السليمة حسب الاصول.
عن صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية