رئيسُ الصُدفة وغِراءُ الكرسي!

آراء 2019/05/16
...

محمد الحداد
 

غريبةٌ حدَّ الوجعِ ثقة القطيعِ المطلقة بعصا راعيها الأوحد..هي ثقةٌ عمياء توهمهم أنَّ الصباحَ هو الذي يهبهُ لهم راعيهم إذا شاءَ أن يفتحَ لهم بابَ حظيرتهم بيديهِ حصراً..بتلك العصا يُساقونَ كلَّ صباحٍ نحو مرعاهم..وبها أيضاً يُدخلونَ كلَّ مساءٍ إلى حظيرةٍ مظلمةٍ لايعرفونَ سواها ولا يجرؤون أبداً على مغادرتها حتى لو غابتْ عنهم يدُ راعيهم إلى الأبد..هل ذكّرَتكم عصا الراعي هذهِ بعصا البشير التي لا تكادُ تفارقُ يديه؟
قبل سنواتٍ قليلة وفي حوارٍ صحفي سُئلَ البشير : هل من السهل على مَن يحكم لفترةٍ طويلة التعايش مستقبلاً مع لقبِ الرئيسِ السابق؟ 
فأجاب: 
“ليسَ سهلاً فقط..إنهُ متعة “! سؤالٌ افتراضيٌّ لكنهُ واقعيٌّ أيضاً رغمَ جرأتهِ وغرابته..أما جوابهُ فكان يوتوبياً خالصاً وأكثر غرابة من السؤالِ 
نفسه..
ولا أحد يعرفُ حتى الآن أين تكمنُ متعة الزُهدِ بنعمةِ الرئاسةِ التي كان يعنيها البشير وهو الذي ظلَّ مُلتصقاً بكرسيٍّ جاءهُ دونما تعب على حينِ غفلةٍ من الزمن..لكن ربما سنفهمُ في الغد ما كان البشير يعنيه في مذكراتهِ القادمة إن سمحتْ لهُ الأقدارُ ووحشة السجونِ 
بكتابتها..
المذكراتُ الرئاسية..تلك النعمة الرومانسية النادرة التي يبدو أنهُ لا حظَّ لنا نحن العرب بقراءتها قبل رحيلِ زعمائنا الأبدي عن هذهِ الدنيا وهم بعيدون عن كراسيهم 
العتيدة.
كان البشيرُ رئيسَ الصُدفةِ الذي أرغمتهُ الأقدارُ على تمثيلِ دورِ البطولةِ الأولى في مسرحيةِ الانقلابِ العسكري ضد حكومة الصادق المهدي عام 1989..المسرحية التي كتبَ حسن الترابي السيناريو الخاص بها وهي حادثة معروفة 
للجميع..
يقول الترابي عن ذلك خَطفْنا البشيرَ خَطفاً من معسكرهِ في جنوب كردوفان ونقلناهُ إلى الخرطوم ليُصبحَ رئيساً للبلاد لأنهُ ومن بابِ الصُدفة المحضة كان يمتلك أعلى رتبةٍ عسكرية..
بالطبع كان ثمة ضباط كثيرون أفضل وأكفأ من البشير يستحقونَ المنصب لكنهم كانوا جميعاً يمتلكونَ رُتباً عسكرية أدنى من رتبته..لم يكن البشير ساعة اختطافه للرئاسةِ وحتى وصولهِ الخرطوم يعلمُ شيئاً عن الانقلاب حتى أخبرهُ الترابي بالأمر قبل يومٍ واحدٍ 
فقط..
تسلمَ بيانَ الانقلاب ذا الرقم واحد مكتوباً وسجّلهُ بصوتهِ وأذاعهُ على الشعب صبيحة يوم الانقلاب..أما الترابي فقد استكملَ فصلاً درامياً آخر من أحداثِ المسرحية لا يقلُّ أهميةً عن فصلِ البشير المثير..
إذ توجهتْ ليلة الانقلاب قوةٌ عسكرية كُلفتْ باعتقالِ الترابي في سجنِ كوبر بأمرٍ تمويهي من الترابي نفسهِ كي ينأى باسم حركةِ الانقاذ عن حادثةِ الانقلاب..في نهايةِ المسرحية الانقلابية دخلَ الترابي “مُختاراً” إلى سجنِ كوبر ودخلَ البشيرُ “مُرغماً” للقصرِ الرئاسي..
بعد بضعةِ أيام اُخرجَ الترابي من السجن لكنَّ رئيسَ الصُدفة لم يخرج من القصرِ الرئاسي أبداً..استهوتهُ شهوة الزعامة وظلَّ مُلتصقاً بكرسيهِ لثلاثةِ عقودٍ 
كاملة!
في هذا العهدِ الطويل للبشير دخلتْ السودان نفقاً مُظلماً..غرقتْ في عزلتها وفقرها وتقهقرها المستمر نحو الوراء وخاضتْ الكثير من التجاربِ المريرة..حروبٌ داخلية وعقوباتٌ خارجية وحصارٌ أمميٌّ خانق وتقسيمٌ جغرافيٌّ باهظ الثمن..يكفي أن أغلى درةٍ في قلادةِ البلاد انفرطتْ من الرقبةِ السودانية السمراء في عهدهِ وضاعتْ منها إلى الأبد:جنوبها الغني 
بالنفط.
في أواخرِ العام الماضي تجددت تظاهراتٌ شعبية سودانية عارمة تشبهُ تلك التي أوشكت على الاطاحةِ بالبشير عام 2013 لكنهُ نجا منها آنذاك 
بإعجوبة..
لم يأتِ غضبُ الشعبِ من فراغٍ أبداً ولم يكن دَلَعاً ديمقراطياً 
بَطِراً..ففي السنواتِ الأخيرة كانت العملة السودانية تواصلُ هبوطها المستمر فيما واصلت الأسعارُ ارتفاعها الجنوني بشكلٍ مضطرد حتى تضاعفَ سعرُ الخبز في فترةٍ قصيرة إلى ثلاثةِ أضعاف في الوقتِ الذي لم يكن البشير يعبأ إلا بتجديدِ فتراته الرئاسية مرةً بعد 
مرة. 
وتفتحتْ أولى ثمارِ صبرِ السودانيين حينما سَلّمَ تجمعُ المهنيين السودانيين مذكرةً ساخنةً إلى رئاسةِ الجمهورية تطالبُ صراحةً بتنحي البشيرِ عن السُلطة..رفضَ البشيرُ وطالبَ بالحوار..وحينما وصلَ غليانُ المتظاهرين ذروتهُ كان قرارهم أن يكون الاعتصام أمامَ مقر قيادةِ
 الجيش..
كانت تلك الوقفة الغاضبة خطوة محسوبة بذكاءٍ عال وبدا واضحاً أنها ستُقرّبُ كثيراً ساعة الحسم لأنها وضعتْ المؤسسة العسكرية أمامَ تحدٍّ خطيرٍ جداً ألزمها أن تختارَ فيهِ بين الوقوفِ مع الشعب أو مع البشير..كأنَّ تلك الوقفة الجماهيرية ألمحتْ للعسكرِ لمدِّ يد العون والوقوف مع أحلامِ المتظاهرين بعزلِ البشير عن 
السلطة..
بالنهاية قامَ الجيشُ بعمليةِ انقلابٍ عسكريٍّ مفاجئٍ وسريع ضد البشير واذاعَ البيان رقم واحد وكلفَ مجلساً عسكرياً بتسلم السُلطةِ في البلادِ لمرحلةٍ انتقاليةٍ مدتها عامان..رفضَ السودانيون ذلك ولم يتقبلوا أبداً أن يقومَ الجيشُ مجدداً باختطافِ ثورتهم المدنية لحسابهم وابتلاعها وتهميش دورهم وتضحياتهم..لم يسمحوا أبداً أن تحصدَ ثمارهم أيادٍ مُسلحة كما كان يحصل دائماً..
وبالمجمل اعتبروا أن أداءَ قادة الانقلاب العسكري لم يكن مقبولاً مطلقاً ولم يرتقِ لمستوى أحلامهم برغم أهمية قرار عزل البشير وايداعه سجن 
كوبر.
ربما لم يعر العسكر أية أهمية لوقعِ كلمة “انقلاب” على قلوبِ السودانيين..تلك الكلمة البغيضة المرعبة التي لايريدُ الشعبُ أن تحجزَ لها مكاناً بعد اليوم في السودان الجديد..ملَّ السودانيون من تكرارِ ذاتِ السيناريوهات القديمة التي كانت تعقبُ كل انقلابٍ عسكريٍّ في البلاد وآخرهُ انقلاب البشير قبل ثلاثين عاماً..ليس هذا باب الأمل الذي وقفوا وراءهُ طويلاً ينتظرون أن تُفتحَ مصراعيهِ على عهدٍ 
جديد..
ما كان ينقصُ الانقلاب العسكري هو أهم وأغلى ما كان يحلمُ بهِ السودانيون على الاطلاق وهو حكومة مدنية خالصة تُنهي حكمَ العسكر المتتالي..
خاصة وأن السودان لم يتذوق نعمة الحُكم المدني إلا لسنتينِ فقط أعقبتا استقلالها من نيرِ الاستعمار البريطاني عام 1956 قبل أن تُدخلها انقلاباتُ العسكرِ المتتالية في نفقٍ طويل لم تخرج منهُ حتى 
الآن.
انسجاماً مع هذا السياق جاءَ بيان تجمع المهنيين السودانيين ليؤكد أنهُ “لا يمكنُ مخاطبة الأزمة من خلالِ انقلابٍ عسكري ولا حلَّ للأزمة سوى بتسليم السلطة لحكومةٍ مدنية يتم التوافق عليها وفق ميثاق إعلان الحرية والتغيير”..لم يكن مقنعاً أن يُستبدل حكم عسكري ظل جاثماً فوق الصدور ثلاثين عاماً بحكمٍ عسكريٍّ آخر كان جميع أفراده جزءاً من نظامِ البشيرِ نفسهِ ومن بطانتهِ المُقربة..وتلك اشكالية كبرى مقلقة للغاية لم يتم حسمها حتى 
الآن.
التجاربُ المريرة السابقة جعلت السودانيين لا يراهنون مجدداً على حدوثِ معجزة جديدة من المستحيل تكرارها وأعني هنا تجربة المشير سوار الذهب الفريدة الذي سيظلُّ وحدهُ فلتة سودانية لن تتكررَ في المشهد السياسي السوداني والعربي أيضاً حينما تعهدَ بعد انقلابهِ الشهير على نميري أن يُسلمَ السُلطة لمن يختارهُ الشعب.. وهذا ما حصلَ تماماً إذ زهدَ بكلِّ شيء ولم يركب الموجة التي رفعتهُ للسلطةِ قبل أن يعتزلَ العملَ السياسي نهائياً حتى وفاته عام 2018.
من المؤسف أن يألفَ القطيعُ مع الوقتِ وجودَ العصا بين يدي راعيهم..وأنَّ يؤمنوا أن وجودهم وحياتهم ومماتهم معقودة بضربةِ عطفٍ من عصاه الحانية..لكن حينما دقتْ ساعة التغيير الحاسمة انقلبت الأدوارُ القديمة تماماً..انتزعَ الشعبُ بيدهِ عصا الراعي وأدخلوهُ سجن كوبر..الجنرالُ العتيد..
الزعيمُ الأزلي والحاكمُ بأمره..رئيسُ الصدفةِ الملتصق بكرسي العرش لثلاثةِ عقودٍ متواصلة اقتلعهُ الشعبُ أخيراً وأنهوا حكمهُ في ثلاثةِ أشهرٍ فقط من دونِ اراقةِ قطرة دمٍ واحدة..هو الذي لم تقتلعهُ عواصف أميركا ولم تنل منهُ عقوبات المحكمة الدولية ولم تمسكهُ قبضة الأنتربول الطويلة لكنَّ يدَّ الشعبِ كتبتْ نهايتهُ أخيراً وحشرت اسمهُ في قعرٍ مظلمٍ من كتابِ 
التاريخ.
ثوراتُ الخبزِ والفقرِ والظلمِ والجهلِ والبطالةِ والغلاء تنتصرُ دائماً حينما يركمُ بعضها فوقَ بعضٍ فتستحيل إلى جبالٍ من غضبٍ مُستعر وتُعجّل بالنهاية..هي أسلحة فتاكة لا يستهانُ بقدرتها على انهيارِ أعتى العروش..قلّبوا صفحاتِ التاريخ لتتأكدوا من ذلك..والحقُّ والعدلُ لا يهرمان بالتقادمِ
 أبداً.