الملابس الحديثة تحمل سمومًا في طياتها
ماريا زويل
ترجمة: فجر محمد
عندما كانت ابنة ازوسينا بيريز في الخامسة عشرة من عمرها، بدأت تهتم أكثر بالملابس التي ترتديها.
ومع ذلك، وعلى العكس من أقرانها والفتيات الأخريات ممن هن في مثل سنها، لم تكن تنوي إتباع صيحات الموضة، أو اختيار ما يناسبها، وإنما تقوم بفحص العلامات التجارية، أو ما يطلق عليها (البراندات). تقول أمها التي كانت تغسل ملابسها باستمرار وتصر على وضعها في الخل لتطهيرها، بلا جدوى: «كل شيء كان يسبب لها حكة شديدة، وكانت تصاب بمؤثرات حساسية وحرقة في الحلق وضيق في التنفس».
وتروي ازوسينا كيف أصيبت طفلتها في أحد الأيام بحساسية مفرطة، وظهرت عليها ردة فعل قوية، ما استدعى التحدث مع الاطباء للكشف عن السموم الموجودة في الجسم، وكيفية تأثيرها على الجلد. وتوضح ازوسينا انهم قاموا بتغيير كل شيء إلى القطن العضوي، وليس الملابس وحسب، بل والأغطية والفرش والأريكة أيضا». ومع مرور الوقت، تم تشخيص المشكلة؛ إذ تسمى هذه الحالة «متلازمة الحساسية الكيميائية المتعددة»، وهو اضطراب يسبب رد فعل أكبر للمواد الكيميائية الموجودة في الغذاء أو البيئة أو المنسوجات.
ولدى الحديث عن الآثار الضارة لصناعة النسيج، عادة ما يذهب تفكير المرء إلى قيام عمال المصانع ببعض الخطوات السيئة أثناء العمل، أو التلوث الناتج عن إنتاجهم ونفاياتهم. غير أنه لم يتم التعرف على الكثير من تأثيرات المركبات الكيميائية الموجودة في الأنسجة، التي تنفذ إلى الجسم عند ملامستها للجلد، وتمر عبر طبقاته المختلفة مفتشة عن فرصة لوصولها إلى مجرى الدم والأعضاء والأنسجة.
تشمل هذه المؤثرات مواد مثل: الفورمالديهايد لتقليل التجاعيد، والفثالات والألكيلفينول لتنعيم النسيج، والمركبات المشبعة بالفلور لطرد الماء والبقع، والمعادن الثقيلة للتلوين، ومثبطات اللهب (مواد كيميائية تضاف إلى المواد المصنّعة مثل اللدائن والأنسجة المختلفة، وذلك من أجل تثبيط أو منع أو تأخير تشكل اللهب في حال حدوث حريق)، والمبيدات الحشرية، و(البيسفينول من النوع الأول) وغيرها المزيد. ويمكن أن تشمل قائمة المواد التي يمكن العثور عليها في الملابس التي نرتديها كل يوم أكثر من 600 عنصر كيميائي، وهناك أدلة متزايدة على آثارها، مثل الحساسية أو السرطان أو السمنة أو التغيرات الهرمونية مثل فرط نشاط الغدة الدرقية أو مرض السكري. والسؤال هو: متى أصبحت الملابس الجديدة مليئة بالمكونات الضارة؟
ملابس زيتيَّة
تشير المعلومات إلى أن كل شيء قد بدأ يتغير منذ العام 1970. فقد أدى ازدهار النفط إلى ظهور مواد جديدة أحدثت ثورة في المنتجات التي نستخدمها، بما في ذلك أقمشة البوليستر مثل التيركال والداكرون.
يُشتق البوليستر من نفس مادة (البولي إيثيلين تيريفثاليت) التي تُصنع بها حاويات المشروبات؛ بمعنى آخر، الفرق الوحيد بين التنورة المصنوعة من البوليستر وعلبة الكولا هو أن البلاستيك مصنوع من الألياف أو مغلف لها.
وتشير التقديرات إلى أن القميص المصنوع من البوليستر يحمل ما يعادل خمس علب بسعة لترين، بينما تعادل السترة 20 علبة. اما عشرة أقدام مربعة من السجاد، فهي تعادل ما لا يقل عن 40 علبة.
خلال تلك الفترة أيضا، تقريبا، ظهر النايلون، ثم الرايون، والسليلوز الاصطناعي والكثير غيرها من المواد، إلى درجة أن معظم الأقمشة بدأت تُشتق من الزيت.
ويمثل البوليستر وحده نسبة 54 بالمئة من الألياف المستخدمة اليوم في صناعة النسيج، و69 بالمئة إذا امتدت إلى جميع المواد التركيبية. لكن المشكلة لا تكمن فقط في التركيب. بل هناك حاجة إلى الكثير من المواد الكيميائية لجعل هذه المادة قابلة للارتداء، ومريحة، وتمنع اشتعالها، فضلا عن عدم تسببها بالحكة، وغير ذلك الكثير.
تكمن المشكلة في أن أجزاء البوليستر تتحول إلى مواد بلاستيكية دقيقة. وذلك حينما تتعقد الامور. ويوضح جواكيم روفيرا مخاطر مستقبلية لهذه المواد. وهو أستاذ بحث في معهد الدراسات الصحية الاسبانية، ضمن مجموعة بحثية تقوم بتحليل تركيبة عناصر الملابس المختلفة منذ العام 2017، وأدى بحثه إلى اكتشاف أنواع كثيرة من المكونات الجديدة. ووجد مع زملائه أن الملابس الرياضية مليئة بجزيئات الفضة النانوية، التي تمنعها من بث الروائح، بتكلفة عالية جداً.
ويقول الباحث جواكيم روفيرا أن الرائحة الكريهة لا تنبعث من عرق الإنسان، وإنما من البكتيريا التي تمتصه وتحوله، ولهذا السبب تستخدم في الصناعة الجسيمات النانوية لقتل البكتيريا». وتكمن المشكلة في أن هذه الجسيمات تقضي على البكتيريا الجيدة والسيئة، أي النباتات الطبيعية التي تحمي الجلد. وإذا قتلنا البكتيريا الجيدة، يمكن لتلك المسببة للأمراض أن تحل محلها، مما يسبب خطرا أكبر للإصابة بالعدوى والمضاعفات.
أما العناصر السامة الأخرى التي وجدت فهي مركبات مشبعة بالفلور، يمكن أن تتسبب في ولادة أطفال بأوزان منخفضة عند الولادة أو لديهم مشاكل في الكلى، فضلاً عن ارتباطها بالعقم. وكذلك الأنتيمون، الذي أدرجته الوكالة الدولية لأبحاث السرطان باعتباره مادة مسرطنة محتملة.
ويمكن امتصاص مادة الانتيمون بنسبة تتراوح بين 20 إلى 30 بالمئة من خلال الجلد، ولكنه يستخدم بمثابة مادة كيمياوية محفزة لصنع الأحزمة البلاستيكية.
ويضيف روفيرا ان المستهلك لا يملك غير مخرج صغير من الامر، اذ لم يجد الباحثون أي اختلافات بين تركيبة ملابس العلامات التجارية المعروفة أو سلسلة المتاجر المألوفة وبين تلك التي يمكن شراؤها من السوبر ماركت.
ويوضح روفيرا أن الملابس سواء كانت منتجة في البرتغال أو ايطاليا أو في الدول الاسيوية، فلا توجد فروق بين الملابس العادية أو تلك المخصصة للحوامل والاطفال.
وجدت دراسة نشرها مركز الصحة البيئية في العام 2022 أن مستويات (البيسفينول) في الجوارب التي تصنعها أكثر من 100 علامة تجارية، بما في ذلك أديداس ونيو بالانس وريبوك تجاوزت الحد الآمن الذي فرضه قانون ولاية كاليفورنيا بما يصل إلى 31 مرة.
لقد كرست منظمة السلام الأخضر أيضا سنوات لتحليل منسوجات السلاسل التجارية المختلفة، وإيجاد تركيزات سامة في بعض من أشهر تلك العلامات المعروفة.
صناعة مستمرة
تعد صناعة النسيج ثاني أكثر الصناعات تسببا بالتلوث بعد صناعة النفط الأولى عالميا. اذ ينتج النسيج نحو 100 مليون قطعة ملابس جديدة سنويا، وهو معدل يتطلب نوعاً مختلفاً تماماً من التصنيع عن ذلك الذي كان قائماً قبل خمسين عاماً فقط، ولكنه أيضاً يقوم بتحريك أموال تصل إلى تريليونين ونصف تريليون دولار سنوياً، وهو ما يزيد من صعوبة تنظيمه.
بالنسبة لنيكولاس أوليا، أستاذ الأشعة والطب الطبيعي في جامعة غرناطة وأحد الخبراء القلة في هذا الموضوع، فهو يعتقد ان المنتج الذي تم تصميمه كي لا يبقى طويلا في هذا القطاع «يطلق عليه اسم الموضة»، وله أيضا تأثير على المخاطر التي نواجهها حاليًا. ويوضح أوليا قائلاً: «إن الموضة السريعة للغاية تجعل المنسوجات ذات مستوى أسوأ من الجودة وعلى نحو متزايد، لأنها لن تستغرق وقتا طويلا في ارتدائها».
ويوضح روفيرا انه باستثناء حالات الحساسية الكيميائية، فإن الآثار الضارة للملابس على الجسم عادة لا تظهر إلا بعد أن تتسبب بالفعل بمرض خطير مثل السرطان أو فرط نشاط الغدة الدرقية أو حتى ضعف الانتباه. ودائمًا ما تكون العلاقة بين السبب والنتيجة معقدة في عالم يمتلئ بشكل متزايد بالمواد الكيميائية. ويتابع قوله:» نشهد في الوقت الحاضر العديد من مشكلات العقم بسبب اضطرابات الغدد الصماء». وينفي جواكيم روفيرا ان تكون الملابس هي السبب، ولكن هناك تأثير للمواد الكيمياوية بالتأكيد.
ومع ذلك يمكن القيام ببعض الامور لتقليل المخاطر، في حين أن الإجراء البسيط للغاية يتمثل بغسل الملابس قبل ارتدائها لأول مرة لأجل إزالة المواد القابلة للتحلل والتي تحملها خامة القماش.
وبحسب الخبراء، فإن الملابس ذات الألوان الفاتحة ينظر إليها بوصفها «أكثر صحة»، لأنها تحتوي على أصباغ أقل، ويفضل القطن بنسبة 100 بالمئة وكذلك الألياف الطبيعية الأخرى، لا سيما إذا كانت عضوية، وإلا فان تلك الملابس قد تم معالجتها بنفس المواد الكيميائية التي استخدمت مع تلك المحتوية على البوليستر.
تقول بالوما لوبيز، مديرة الجمعية الإسبانية للاستدامة والابتكار والتدوير في الموضة إن على المهتمين بموضوع الموضة أن يفضلوا العلامة التجارية، التي تطرح ويتم تسويقها على انها مستدامة وصديقة للبيئة، لأن المواد الأخرى الداخلة في صناعة العلامة التجارية يتم تصنيعها ضمن سلسلة الإنتاج نفسها التي تصنع الموضة السريعة، وهكذا يجري التأكد من صناعتها في دوائر مائية مغلقة ومستدامة، وبأصباغ من أصل نباتي أو لم تتجاوز الحدود المنصوص عليها، بحسب وصف لوبيز التي توصي بغسل الملابس وكيّها بنسبة أقل، لأن ذلك يؤدي إلى اطلاق السموم والالياف الدقيقة التي تسقط من البوليستر وتملأ قاع البحر.
وتتابع لوبيز قولها: «إذا كنت ترتدي ملابس قطنية، يمكنك تهويتها وارتداؤها مرة أخرى لأنها لا تطلق رائحة، فهي تتنفس بشكل جيد للغاية.» ومن جهة أخرى فإن من الموارد الحديثة لأولئك المستهلكين الذين لديهم وعي أكبر بالاستدامة، هي الملابس المصنوعة من البلاستيك المعاد تدويره. ومع ذلك يعتقد نيكولاس أوليا انه لا يوجد حل نهائي لهذه المشكلة، فبالإضافة إلى التلوث الناتج عن الغسيل والتعقيم والتبييض وصنع ألياف جديدة، فإن تلك الملابس أيضا تؤثر في الجسم بالحجم نفسه تماما. ويبين أوليا قيام عدد من الشركات وفي مرات عديدة بشراء قنانٍ جديدة، ثم يدّعي أصحابها بأنها أعيد تدويرها وبالتالي فهي لا تجدي نفعا للبيئة. ويؤيد الخبير أوليا اعطاء الملابس عمرا أطول، وشراء تلك المصنوعة من القماش ذي الجودة الافضل والمعاد استخدامه.
عن صحيفة الباييس الاسبانية