البقاء للإبداع

ثقافة شعبية 2023/12/07
...

كاظم غيلان 



بقدر ما استغلت السوشيال ميديا لتقديم خدماتها وبكل ما بها من اتساع وتفرعات قدمت خدماتها المجانية لإفرازات "عصر التفاهة"، إلا أن هناك من وجد فيها فسحة للحوار الجاد والمتابعة الدقيقة الناجمة عن رصد دقيق لحركة الثقافة والشعر خصوصا.

نبهني الصديق الروائي ( سلام ابراهيم ) لطاقات شابة في شعر العامية العراقية، وهو يؤشر أو يلتقط ويرى ظلال تجارب شعرية مهمة في كتاباتهم.

تابعت مارصده سلام وهو في منفاه الدنماركي، ووجدت دقة ما ذكره في نتاجات الشباب الذين أشار لهم ومنهم على سبيل المثال لا الحصر (حيدر حمادي وسيف ببان) وآخرون. 

دقة ماذكره سلام متأت لرفقته تجارب شعرية، عاش تفاصيلها الحياتية والإبداع في زمن شهد أعلى مراحل تطورات القصيدة العامية الجديدة لا سيما (عزيز السماوي، علي الشباني، طارق ياسين)، فقد كان لهذا الثلاثي والذي يمكن لي تسميته افتراضا جماعة (خطوات على الماء)، كإشارة لمجموعتهم الشعرية المشتركة التي حملت هذا العنوان، والتي قدم لها الشاعر يوسف الصائغ منبها لما في المجموعة من أهمية تؤكد صحوة وعافية امتداد التجديد، الذي أحدثه مظفر النواب الفاتح لهذا الباب بلا منازع. 

استمرت متابعتي وسلام ومن خلال( المسنجر) لنصل إلى قناعة بمدى ما اتاحه الوعي الشعري لهؤلاء الشباب لصقل مواهبهم، فقد اقتفوا آثارا شعرية كان لوعيها ومواكبتها لكل ما حصل من تحولات في حركة الشعر عربيا وعالميا، وأثروا ذلك الوعي بمواقف فكرية واسعة الأفق على خلاف تجارب، تمسكت بمحدوديتها الشعبوية وأخرى أحبطت محاولاتها في القفز، الذي يشبه الانتحار الفاشل، حيث أرادت تحميل القصيدة العامية لما يفوق طاقتها، فكان لها التخبط مثلما كان لها الفشل.

الوعي الشعري الذي ننبه له في كتاباتنا وباستمرار للأجيال التي تلت حقبة السبعينيات ليس باليسير، فقد كانت الحروب والحصارات مصدا قاسيا بوجه تطلعات الأصوات الشعرية الجديدة لما لحياتنا العراقية من تدخلات أبعدتنا عن ذلك الشغف والمتابعة، وعن حماسنا الأول ونحن نعيش عزلة عن الكون بأسره. 

بعد الزوال الذي تحقق مع سقوط ذلك النظام الذي كان سببا لما حصل، أفقنا جميعا والشباب الذين عنيتهم على حياة جديدة توفرت فيها مستلزمات غاية في الجاهزية لمعرفة تطورات الثقافة ووقائعها الحية لحظة بلحظة وليس حقبة بحقبة، إلا أن هناك من سارع لاستثمارها كنعمة معرفية، وهناك من وجدها فسحة لسجالات مريضة وشهرة مريضة ساذجة تعززها استعراضات أشد هزالة من شخوصها.

الرهان على التفاهة من جانب المؤسسات المعنية بتصديرها وفقط، اما البقاء فللإبداع وحده، ولنا في شعر الجاهلية خير مثال، إذ لم تزل قصائدها حاضرة وبقوة، في الوقت الذي سرعان ما تظهر وتثير الغبار والضجيج ظواهر التفاهة، وسرعان أيضا 

ماتختفي. كل ما نكتب هنا قيد رصد ومتابعة وإن طال الأمد، فليكن هذا الفضاء معرفيا لكي نؤشر عافية ثقافتنا مثلما نؤشر أمراضها، المزمنة وغير المزمنة، ذلك كله هو تشكلات وعينا الشعري.