هناك من يرى أن صورة “الأنا” لا تكتمل إلَا بوجود الضد “الآخر”، سلباً أو إيجاباً، ففي نفي “الأنا” بترٌ لوجود “الآخر” وحضوره.
نجد (ريكور) يؤكد أن لا اكتمال لوجود الذات “الأنا” من دون وجود “الآخر”، لأن وجود “الذات عينها كآخر”، ومع (ديكارت) نجد أن وجود الذات كذات مُفكرة هو الوجود الحقيقي بمعزل عن وجود “الآخر”، بينما نجد (تشارلس ساندرس بيرس) يصف هذا “الشك الديكارتي” بأنه “شك لا منهجي” بل ليس سوى شك مُفتعل، لأن وجودنا الحقيقي يُدَرك عبر وجودات أخرى، فهُناك كثير من الكائنات الحية مثل “الحيوانات” موجودة، تأكل وتتنفس، والشك بوجودها لا يُمكن أن يكون شكاً منهجياً، “لأنه شك مُختلق لأن ينطلق من بديهية اختلقها هو وسلم بها هو وأنكر من خلالها وجود الأشياء جميعاً والشك في كُل شيء إلَا في كونه إنساناً يُفكر”، لذلك فكل إدعاء للشك في وجودات في واقعنا إنما هو مُعاندة شكية لا منهجية، لأنها خارج مُقتضيات التجربة الحسية.
قيل في المثل العربي “أن الناس أعداء ما جهلوا”، لذلك يُبادر الكثيرون منهم في رفض “الآخر” لمُجرد عدم معرفتهم به، ولكنني أرى أن معرفة “الآخر” تكون في بعض الأحيان أحد أسباب رفضه، وجهل “الآخر” به سبب أكبر للرفض، فمعرفة “الآخر” تعني الغوص أكثر في أنماط تحولاته المعرفية وجذور مُتبنياته الأيديولوجية التي ـ ربما ـ فيها اختلاف في التبني، فعادةً ما يكون أساس التبني عند “الآخر” قائم على الاستنباط والمعرفة البرهانية، فيما يكون نمط المعرفة عندنا قائم على الوجدان والمعرفة الباطنية أو “العرفانية”، وربما يكون هذا الفارق المعرفي أحد أسباب الرفض لا القبول لـ “الآخر”، لمعرفتنا باختلافنا وافتراقنا في الرؤية و المنهج، بل وفي نزوعنا العقائدي والأيديولوجي. أما في جهلنا له ففيه قصد واضح وإمعانٌ في الرفض، فليس من ثقافتنا قبول المُعارض وليس منَا من كان مُخالفاً لنا في الرأي والمُعتقد بحكم “الألفة” مع مُتبنياتنا المعرفية والأيديولوجية التي ورثناها من مُحيطنا البيئي والاجتماعي والتاريخي فجعلنا منها مناط الحُكم على صواب الرؤية المُغايرة لرؤانا من خطئها!، ولم نُكلف أنفسنا فحصها وفق مبدأ “التفنيد” البوبري نسبة لـ “كارل بوبر” أو للتشكيك الديكارتي، فصيَرناها مُسلمات أو بديهيات لا يأتيها الباطل لا من أمامها ولا من خلفها!.
إن وجود “هويات فرعية” ذلك من طبيعة الوجود الإنساني، وهو ليس مُشكل بحد ذاته، ولكن تناميها للمستوى الذي تغيب فيه “الهوية الوطنية” ذلك هو المُشكل الأكبر والأعظم، فلكل منَا انتماء هوياتي فرعي، إما أن يكون عرقيا “أثني” أو “ديني” أو “مذهبي”، وأميزها في قبول التنوع هو “الهوية الثقافية” والهوية الثقافية هذه يُمكن أن تكون هوية بلد وتاريخ حضارة ويُمكن أن تكون هوية جماعة مُعينة، ولأنها “هوية ثقافة” فهي بطبيعة وجودها هوية تقبل التنوع والمُغايرة في الرؤية والتوجه الفكري، وحينما تنحو باقي “الهويات الفرعية” باتجاه تفعيل وجودها الحضاري بوصفها “أيقونات” للتنوع الوطني والتكوين المُجتمعي الأشمل، فهي إغناء معرفي وإضافة تنويرية للـ “الآخر” المُختلف، ولكن حينما ينغلق أصحابها على هويتهم ولا يقبلون بوجود “آخر” مُشاركاً لهم في الوجود الاجتماعي والجغرافي المُسمى وطن تلك هي العقبة الكُبرى في بناء “هوية ثقافية” جامعة.
لقد تحولت بعض الجماعات المُتعايشة في الوطن الواحد إلى جماعات مُتصارعة بسبب شيوع الفكر “الدوغمائي” في مُجتمعاتنا سواء في غباء أحزاب السلطة المُنكفئة على رؤاها الأيديولوجية وسوء تقديرها لكيفية إدارة الدولة، أو بسبب تفشي الحركات “الراديكالية” = (الاقصائية) ذات التفكير الأحادي الذي لا يقبل دُعاته ولا مُريدوهم بوجود “آخر” يتبنى وجهة نظر مُغايرة لمُتبنياتهم “العقائدية”، الأمر الذي دفع الكثير من “الأقليات” إما للهجرة، أو الاحتماء بهوية مُماثل لـ “هويتهم الفرعية” فصنفهم البعض بـ “العُملاء” للأجنبي، أو “الولائيين” وتلك صورة لتشظي “الهوية الوطنية” إلى “هويات فرعية” بدَت جليَة وواضحة في المجتمع العراقي بعد الاحتلال الذي مهد لفكرة تشظية “الهوية الوطنية” في العراق إلى “شيعة” و “سُنة” و “كُورد”، وكل مُكون مُجتمعي من هؤلاء إنما صار يُدين بالولاء لجماعة أُخرى مُتضامنة مع نزوعه في التوجه “العرقي” أو “المذهبي” فصار العراق هويات لا هوية واحدة له، وازاد تشضي الهوية إلى أقليات صغيرة صارت تبحث لها عن ملاذات آمنة للخلاص من “داعش” مثل “المسيحيين” و “الأيزيديين” و “التركمان” وكل يبكي على ليلاه، ليلى “الجريحة” = (العراق) أو ما أطلق عليه سليم مطر “الذات الجريحة”، ألا وهي “الهوية الوطنية” التي غيبتها النُخبة السياسية العراقية وتجريحها وتشظيتها بحسب انتماءات هذه النُخب “الولائية” للمُحيط الخارج وطني.
كان بامكننا الاستفادة من “تجربة “مصر” ـ كما يقول سليم مطر في كتابه “الذات الجريحة”ـ ونجاح النُخبة المصرية في خلق “هوية مصرية” تعترف بديمومة الشعب المصري منذُ الفراعنة والأقباط حتى التكوين العربي الإسلامي. أي مُحالولة المُجانسة بين الأصالة المصرية من ناحية، والانتماء العربي الإسلامي من ناحية ثانية”. لكن الذي حصل عندنا نحن العراقيين هو العكس تماماً غياب تأثير النُخبة في بلورة وعي وطني حقيقي، الأمر الذي جعل الكثير من العراقيين يشعرون أنهم في واد والنخبة الثقافية في واد آخر.
النتيجة أن صراع الهويات الفرعية بدأ بالأفول لا لأن النُخبة تمكنت فعلاً من إيصال رسالتها، بقدر ما كان لتوازن قوى العُنف وإيمان المكونات المُتصارعة بأن لا إمكانية من إلغاء الآخر المشارك له في الوطن. وبما أن الديمقراطية لم تفعل فعلها في تهدئة الصراع لأنها (ديمقراطية توافقية) تحمل في مضانها نسفاً للديمقراطية ذاتها، فآثر قادة المكونات الرجوع للصف الوطني بعد أن فعلت قوى العُنف أفاعيلها في تشظي الهوية
الوطنية.