تساءل اكثر من دارس ومفكر، كما تساءلنا، إن كان ثمة تواصل بين شعوب القارات، وعن سر تشابه بعض الثقافات والمعتقدات والأفكار؟ في بلدان متباعدة عثر على اهرامات. ليس مهماً حجم الهرم ولكننا نتحدث عن حضوره أو تواجده هناك كفكرة وفلسفة حياة. كذلك عادات اجتماعية متشابهة ومعتقدات وطقوس لشعوب تفصل بينها بحار ومحيطات ونحن نعرف صعوبة المواصلات قديماً وندرة الاتصال..
تأثير الأغريق، في الزمن الأقرب، في أوروبا أفكاراً وموسيقى واناشيد تعبديه، أمر مقبول بسبب التواصل الزماني المكاني. فـ مُثل افلاطون واضحة في التقاليد الغربية عن طريق افلوطين والقديس اوغسطين والاناشيد الجريجورية، فلا نستغرب ضروب الايقاع المماثلة لتلك في القرون الوسطى.
ونحن أيضاً لا نستغرب التعبيرعن السكينة الداخلية والانسجام والرضا بالطبيعة، بالثلوج وبايراق الاشجار والمطر الربيعي على الحقول. هو مثل تلك التي في الصين القديمة وهو أيضاً ما نجده في الكلاسك الاوروبي ونحن اليوم نجمع بين الكلاسي الاوروبي وسلفه وبين الاضطراب وعدم الاتزان والصيحات النشاز لمعطيات العصر، تلك وصلت عبر التجارة مع الغرب من اليابان بعد فتحها وهذه جاءت من رحم العصر وصخبه
وتقاطعاته.
ويمكن ان تجد تماثلا بين الاندفاعات والتهورات المفاجئة في الرسم والرواية، في القرنين السابع عشر والثامن عشر وتلك التي حصلت بعد التقاليد الكونفوشيوسية مما هو قريب من التمرد واللاتهذيب .. اظن مثل هذا حصل في الرواية والرسم الاوربيين، فقد افترقوا عن الرصانة والتقاليد المهذبة في الرسم وفي الرواية وما خلا الشعر من ذلك. انتقلوا من تلكم المزايا إلى روايات الجيب والبوليسية والجنسية وفنون العري والمغامرة
والعبث.
هذه التماثلات في الانتقال من حال إلى حال ومن مدى تعبيري إلى آخر يمكن عزوها إلى التواصل وانتقال الفلسفات والافكار، ولكن هذا النظام المتشابه –والمتكرر في مراحل زمنية- يدعو للتساؤل، هل هو نتاج طبيعة عمل العقل البشري أم هي سياقات الحياة في أقطار وبلدان العالم تعطي تحولات متشابهة؟ بعضهم يعزوها إلى خطوط معينة في الطبيعة البشرية وليست مفروضة من الطبيعة المادية عليهم. وهذا الأمر أدى إلى وجود نمطين من التفكير احدهما صار يفكر بطريقة “إيمانية” غيبية بأن الله كامن في العالم، وكامن في الإنسان الذي هو بعض من العالم. وان هذه هي القوة الأساسية الموجهة للتفكير والتطور ثم للتاريخ البشري والحياة. ونجد اليوم في بعض القديم تعبيراً عنا وعن متاعبنا الروحية ومواجهاتنا. والحكمة القديمة هي الحكمة
اليوم.
التفسير الثاني أو الرأي الآخر، يقرب من ذلك، ويعزوها إلى التكوين الفطري للإنسان ولمادة تكوينه. لهذه ميول إلى التحول والتغير في انماط واحوال معينة. وحيث تتوافر شروط الحياة ليعيش الإنسان. وهنا يكمن سر الابداع المتماثل والافكار المتماثلة في الفنون وفي الاداب. وان استجاباتنا البشرية وارتياحنا لها سببهما انها تعبر عن كوامننا الإنسانية، فهي من تماثلاتنا
أيضاً ...
أرى في هذا مدخلاً إنسانياً يفتح أفقاً نبيلاً للفهم وللتعاطف البشري وللتعبير عن المحنة الوجودية وحراجات العيش كما عن الكامن من الرغبات البشرية. في هذا النزوع من التفكير نكون ضمن اجواء التقدم الحضاري المدني، ما دمنا ادركنا تماثلنا البشري وخضوعنا للعناصر الفاعلة في تكويننا.
واستكمالاً لهذا جرت محاولات للفصل بين الأصيل الكامن وبين الطارئ الذي تفرضه ظروف هذه البيئة وتلك. ولعل اوضح هذه “التفاسير”، ذلك الذي يقول “بالتكوين الخاص” داخل النفس البشرية، وهو هذا الذي يحدد أساليب التعبير بحسب احتياجات الضوء أو سلامته. وهذه المدرسة توصلنا بالمفكرين والمبدعين الفرديين وتاكيدهم على استقلالية الفن الابداعي، شعراً أو رسماً أو موسيقى، وأن الفنان تابع لنفسه المبدعة وينبع ذلك: أن الفن للفن ..
هكذا تتواصل الأفكار وتتواصل فلسفات الفن. فبعض يرى للاشكال استقلالها وملكوتها – كما هو استقلال “التكوين الخاص للنفس المبدعة وبعض يراها تقاليد أورثتها تقاليد او احتياجات اجتماعية للإنسان من خلال كفاحه من اجل العيش وتغلبه على ما يعرقله أو ما يقف دون حاجاته أو تقدمه.
والخلاف بين ما يسمى بـ”الحتمية الباطنية” ومحصلة المؤثرات الخارجية، أو الحياة، انما هو خلاف العوامل داخل نفسه وتلك التي خارجها.
وفي الأحوال كلها، نحن نجني ثمار النتاجات الإنسانية كما نجني ثمرات الكدح البشري، ومهما ظلت الخلافات في الاجتهاد، تظل المكاسب الأدبية والفنية حاصل جهاد الإنسانية وهي تقتحم مناخات وتضاريس واشتباكات الطبيعة وتوق الداخل الإنساني ليُرى!
والجميع منا، سواء الذين لا تعنيهم الأسباب الخارجية أو الذين يؤكدون عليها، من الذين يعينهم التكوين الخاص أو العبقرية الفردية، الجميع يؤكدون ويفيدون من الابداعات الأدبية والفنية وهوهذا الذي يعنينا قبل كل شيء...