أهم المكتشفات الأثريَّة لعام 2023
دانييل فايس، إيلانا هيرزيغ، بنجامين ليونارد، جاريت لوبيل
ترجمة: مي اسماعيل
اعتاد علماء الآثار والمنقبون إدراج مكتشفاتهم الأهم عند نهاية كل سنة، وبهذه المناسبة ندرج هنا بعضاً من أبرز ما كشفت عنه التنقيبات في مناطق مختلفة من العام وحقب متنوعة من التاريخ خلال العام المنصرم 2023.
صلاة مرسومة
دنقلا القديمة- السودان
اكتشف فريق من المركز البولندي لآثار البحر المتوسط بجامعة وارسو شبكة محيّرة من الغرف تحت الأرض، أثناء فحص منزل يعود تاريخه للقرن السادس عشر في دنقلا القديمة بالسودان (التي كانت عاصمة مملكة المكرّة النوبيَّة في العصور الوسطى (نحو 400 - 1400 ميلادية). على جدران إحدى تلك الغرف (وهي ذات مساحة ضيقة مقبّبة، يبلغ عرضها نحو متر واحد وطولها نحو ثلاثة أمتار فقط) عُثِرَ على العديد من اللوحات غير التقليديَّة التي يُعتقد أنّها تعود للقرن الثالث عشر؛ التي تصوّر مشاهد دينيّة من الفن المسيحي البيزنطي. يصف رئيس الفريق "أرتور أوبلوسكي" تلك اللوحات قائلا: "انها ليست بالنمط الشائع تماماً في الفن المسيحي البيزنطي، والذي لا يُظهر عموماً الكثير من الاتصال بين (الشخوص) الفانين والخالدين". يعتقد الباحثون أن تلك اللوحات ترتبط بلحظة مصيريّة من تاريخ مملكة المكّرة؛ كما يُشير نقش نوبي قديم يصاحب مشاهد اللوحات. يشير النص عدة مرات إلى ملك اسمه داود شن هجوماً على سلطان المماليك في مصر (لأسباب غير معروفة) أواخر القرن الثالث عشر، فضلا عن دعاء الله لحماية المدينة.
آثار أميركا الوسطى السحريَّة
مكسيكو سيتي- المكسيك
يقول عالم الآثار "ليوناردو لوبيز لوجان" من المعهد الوطني للأنثروبولوجيا والتاريخ بالمكسيك إنّ معبد "تيمبلو مايور"؛ وبضمنه الأهرامات الضخمة في قلب الأزتيك (أو ميكسيكا عاصمة تينوختيتلان) يشبه الدمية الروسيّة؛ إذ كلما جرى التنقيب في تلك الأهرامات يتم اكتشاف واحد آخر داخله؛ أقدم تاريخا وأصغر حجما. في الطبقة التاسعة من تلك الطبقات الثلاث عشرة عثر لوجان وفريقه على صندوق صغير مصنوع من الحجر البركاني، يضم خمسة عشر تمثالاً مجسّماً مصنوعاً من السربنتين (= معدن أخضر داكن يتكون من سيليكات المغنيسيوم المائيّة، يكون مرقّطا أحيانا مثل جلد الثعبان. المترجمة). فضلا عن رموز الازتيك عن الماء والخصوبة؛ مثل- الرمال البحريَّة، وزوج من الصولجانات على شكل أفعى مجلجلة، ومئات من حبّات الحجر الأخضر، والأصداف البحريّة والقواقع والمرجان. يعود تاريخ تلك الطبقة من المعبد حيثُ عُثِرَ على الصندوق إلى عام "1 - أرنب"، أو 1454، عندما شهد المعبد إحدى أكثر توسعاته إثارة للإعجاب في عهد الملك "موكتيزوما الأول" الذي حكم خلال سنوات 1440 إلى 1469. لكن تلك الآثار كانت بالفعل بعمر عشرة قرون حينما جرى إحضارها إلى تينوختيتلان من على بُعد 354 كيلومتراً. ذلك النوع من التماثيل كان يُنتج عادة منذ نحو 500 ق. م. إلى 680 ميلادية من قبل شعب ميزكالا، الذين كانوا يعيشون ضمن منطقة تقع الآن في ولاية غيريرو بجنوب غرب المكسيك. ثم جعل الأزتيك تلك الآثار إلى أشياء خاصة بهم في أكثر أماكنهم قدسية؛ بعد تزيينها بالطلاء ووضعها في الصناديق لتصير قرابين لإله المطر تلالوك. يمضي لوجان قائلا: "كانت تينوختيتلان مركز عالم أميركا الوسطى، وجلبت إليها الأشياء من جميع مقاطعات الإمبراطورية، وحتى من خارج حدودها.
وكانت تماثيل ميزكالا مقدسة بالنسبة للأزتيك قديما؛ إذ مثلت العديد من تلك القرابين مخططات أو تمثيلات مصغرة للكون كما تصورها الأزتيك. يرمز الصندوق ومحتوياته إلى عالم أسطوري يُعرف باسم "تلالوكان" أُعيد تقديمه في معبد "تمبلو مايور"، وحيث كان إله المطر يحفظ الماء والقوت".
أقدم كتب العالم
الحيبة- مصر
يرى الباحثون أنّهم عثروا على قطعة من البردي (أبعادها 15 سم x 10 سم) هي جزءٌ من أول كتب العالم. وكما هو الحال مع كثير من نظرائه في المكتبات والدوائر والمنازل؛ عاش ذلك الكتاب عدة حيوات.. فقد بدأت قطعة البردي تلك (التي اكتشفت مع مئات من قطع البردي الأخرى في موقع الحيبة بمصر عام 1902) حياتها كوثيقة مجلدة يعود تاريخها إلى العام 260 ق. م.، واستخدمت لتسجيل معدلات الضرائب على الجعة والزيت، مكتوبة بأحرف يونانية باستخدام الحبر الأسود. ثُم أُزيلت تلك الوثيقة من غلافها وأُرسلت كرسالة قبل أن يتم تحويلها مرة أخرى؛ إذ جرى رسمها بالصور؛ ومنها واحدة تصور ابن الإله "حورس" ذو رأس الصقر وأعيد استخدامها لتغليف مومياء خلال العصر البطلمي (304- 30 ق. م.). تعرف فريق من جامعة غراتس بقيادة مرمّمة الآثار "تيريزا زاميت لوبي" على كيفية صنع ذلك الكتاب، باستخدام التصوير المجهري والمتعدد الأطياف. تقول لوبي: "لدينا ورقة عادية من البردي، مكتوب عليها ومطوية مرتين ومحوّلة إلى كُتيّب. ثم تربط الأوراق الثنائية المختلفة (أو الأوراق المفردة المطوية في المنتصف) بواسطة أشرطة من مادة مرنة على غرار مغلفات التجليد الحديث". كما تحوي القطعة فتحات لتمرير الأشرطة والخيوط الرابطة، وكشفت طبعات الحبر المتماثلة عبر الطية الدقيقة في المركز أن الورقة الثنائية كانت ذات يوم مُغلفة داخل مخطوطة
قديمة.
وتمضي لوبي قائلة: "لا بدَّ أن يكون محاسباً ما قد قام بفصل الورقة من الكتاب وطوى الرسالة وختمها، ثم سلّمها إلى الدائن أو المدين". هذا الكتاب يدفع التاريخ المفترض لعملية تنضيد وتجليد الكتب عدة قرون إلى الخلف؛ كما ترى لوبي: "كان تاريخ أقدم كتاب معروف سابقًا يعود إلى القرن الأول أو الثاني الميلادي؛ لذا فكتاب البردي هذا يسبق أي شيء قبله بما يقارب نحو أربعمئة عام. قد يكون الكتاب مؤشراً لكيفية حدوث المعاملات وكيف يعيش الناس ويكتبون وينقلون المعلومات؛ والأهم أننا تعلّمنا أن الكتاب (ببنيته الحالية على عكس المخطوطة) كان موجودا قبل وقت طويل مما تصورنا..".
أصول عمال الإنكا
ماتشو بيتشو- بيرو
تقع ماتشو بيتشو على سلسلة من التلال الجبلية في وادي أوروبامبا، جرى بناؤها لتكون قصراً يمثل جزءاً من موقع ملكي أكبر تابع لإمبراطور الإنكا "باتشاكوتي" الذي حكم تقريباً في سنوات 1420-1472 ميلادية. وقد حافظ فريق من المستخدمين؛ عمال مهرة بما فيهم الحرفيون ورجال الدين؛ على سلامة الموقع وإدامته، بينما كان الامبراطور وحاشيته يقيم في العاصمة كوزكو، على بعد نحو 72 كيلومترا. لم يعرف الباحثون حتى وقت قريب هوية هؤلاء العاملين ومن أين جاؤوا؛ لكن المستكشف "حيرام بنينغهام" نقّب في موقع يضمُّ مدفناً لنحو مئة من هؤلاء عام 1912 خارج أسوار القصر.
وكان بعضهم قد دُفِنَ مع فخاريات مزينة بأسلوب إقليم الإنكا وغيره، بما فيها صور أشخاص يرتدون زي الأمازون وملابس تشبه ملابس الإنكا. لكن دراسة وراثيَّة جديدة لرفات هؤلاء العمال قادها آثاريا جامعة ييل "ريتشارد بيرغر" و"لوسي سالازار" مع أساتذة علم الأنثروبولوجي من جامعة كاليفورنيا كشفت أن فريق إدامة المجمّع الملكي ينحدرون من جميع أجزاء إمبراطورية الإنكا الشاسعة تقريبا، والتي امتدت في أوجها على طول الساحل الغربي لأميركا الجنوبية (من ما يعرف الآن بشمال الإكوادور إلى شمال الأرجنتين وأجزاء من تشيلي). دُهِشَ الباحثون لاكتشاف أن نحو ثلث هؤلاء العمال كانوا قد جاؤوا من منطقتين منفصلتين من الأمازون البعيدة؛ كما يقول بيرغر: ".. وهذا يوحي بأنّ جزءا من الامازون (على الأقل) كان متداخلا مع امبراطورية الانكا بطريقة لم يُدركها الباحثون مسبقا؛ إذ لم يكن الأمازونيون مجرد أقوام على الجانب الآخر من الحدود التي كان لها تعامل تجاري ضعيف مع الانكا". لم تكن بين أولئك العمال صلة قرابة (ما عدا أم وابنتها)؛ مما يوحي أنهم أستُقدموا إلى ماتشو بيتشو بصفة أفراد وليس أُسراً كاملة أو مجموعات مجتمعيّة؛ كما يقول الباحثون: "جاء معظم الذكور من المرتفعات، بينما ظهر أن العدد الأكبر من الأناث جئن من مناطق الأراضي المنخفضة والمناطق الساحليَّة". وأثناء معيشتهم في ماتشو بيتشو أسس أولئك العمال روابط أُسريَّة جديدة وخلقوا مجتمعاً متعدد الأعراق.
مسرح الامبراطور العابث
روما- ايطاليا
عُرف الكثير عن أباطرة روما؛ إذ كان بينهم من يستعرض مهاراته العسكرية والدبلوماسية المتفوقة، أو يكتب أطروحات فلسفية راسخة ويقيم مباني عظيمة. وكان منهم الإمبراطور نيرون (الذي حكم خلال سنوات 54 إلى 68 ميلادية)، وهو مشهور بغنائه (مع بضعة صفات أخرى أقل تسلية). وفقاً لعدد من المؤلفين الرومان القدماء كان الموقع المفضّل لنيرون لتمديد حباله الصوتيّة هو المسرح الخاص الذي بناه في حدائق أجريبينا؛ الفيلا الفاخرة التي كانت مملوكة لوالدته بالحي الروماني قرب الفاتيكان (بموقعه الحالي). ذُكِرَ مسرح نيرون أدبيا؛ إذ ربما اشار اليه المؤرخ الروماني " تاسيتوس" حينما وصف غناء الامبراطور ابتهاجاً بسقوط طروادة وهو يشاهد حريق روما عام 64 ميلادية. استخدمت مواد بناء ذلك المسرح في مواقع أخرى منذ العصور القديمة، ولم يكن موقعه الدقيق معروفًا حتى اكتشف علماء الآثار بقاياه مؤخراً في حديقة من عصر النهضة.
تشمل الآثار الرائعة منطقة جلوس نصف دائريَّة بعرض نحو 42 مترا، ومساحة مستطيلة بها مداخل وسلالم، وفضاءات أخرى لخزن الديكورات والملابس. بُنيَت تلك الفضاءات من آجر يعود لحقبة أباطرة السلالة "اليوليوكلاودية- Julio-Claudian " (هم أول خمسة أباطرة رومان، سنوات 27- 68 ميلادية. المترجمة)؛ وبالأخص الامبراطورين "كاليغولا، (37- 41 م.)" ونيرون. المسرح جزءٌ من مجمّع مبانٍ كبير يضم قصر نيرون الخاص، وكلاهما كان مزيّنا بأعمدة الرخام الأبيض وألوان متنوعة؛ مما جرى اكتشافه مؤخراً. وهو اكتشاف وصفه الباحثون بالمزدوج؛ إذ أّكد وجود المسرح المبني بالآجر وحدد موقعه الدقيق.
• مجلة "آركيولوجي" (منشورات المعهد الآثاري الأميركي، يناير/ فبراير 2024)