أدوية الدول الغنيَّة ليستْ للفقيرة

بانوراما 2024/01/07
...

 فيديا كريشنان 

 ترجمة: أنيس الصفار                                          

خلال شهر نيسان من العام الماضي أعلن أحد مستشفيات مدينة "كاندي" في سريلانكا عن وفاة سيدة حامل بسبب مضاعفات ألقيت تبعتها على مادة تخدير مصدر انتاجها الهند. بعد تلك الحادثة بأشهر قليلة توصل الباحثون إلى إيجاد علاقة بين شراب لمعالجة السعال منتج في الهند ووفيات أطفال وقعت في غامبيا وأوزبكستان. وخلال فترات متقاربة من العام المنصرم عثر على ادوية غير مطابقة للمواصفات في جزر مارشال ومايكرونيزيا قبل تسببها بأية اضرار.

تفاوت القدرة الرقابية 

بين الدول الغنية والفقيرة 

هذه الحوادث التي وقعت في أنحاء متباعدة من العالم تكشف عن خطوط الأزمة العالمية بشأن الأدوية غير المأمونة التي تصيب البلدان الفقيرة بآثارها الشديدة. فعلى مدى العقدين الماضيين برزت الهند كصيدلية للعالم النامي، حيث انها المصنع الرئيس لأدوية وعقاقير غير مسجلة، وهي تنتج اكثر من 20 بالمئة من الامدادات العالمية. ساعد هذا في إيجاد مدى من الأدوية الميسورة لمرضى فقراء على امتداد انحاء العالم كانوا قبل هذا يضطرون الى الاستغناء

 عنها. مع هذا تجد الهند نفسها اليوم متهمة بنشر الموت، والسبب هو أن الجهات التنظيمية فيها قد أخفقت في الحيلولة من انتاج وتصدير ادوية تتصف بأنها دون مستوى الجودة المطلوب، رغم ان هذه ليست بالكامل مشكلة الادوية المنتجة في الهند، بل إن ثمة سراً قذراً على مستوى الصحة عالمياً خلاصته ان الدول الغنية تحصل على ادوية عالية الجودة في حين أن الدول الفقيرة تحصل على السُم أحياناً.

تكمن المشكلة أساساً في انعدام المساواة تنظيمياً بين الدول الغنية والفقيرة. فالدول المتقدمة لديها أجهزة تنظيمية حسنة التمويل تسهر على مراقبة سلامة الأدوية ونوعيتها. 

أما الهند فيخضع انتاجها لرقابة ضبابية الملامح من خلال إحدى المؤسسات، التي تثار حولها منذ وقت طويل أقاويل ومزاعم بسوء الإدارة والفساد يطلق عليها "المنظمة المركزية لمراقبة معايير الدواء". كما أن كثيرا من الدول النامية ليست لديها الموارد اللازمة لفحص الادوية المستوردة على النحو المطلوب.

في العام 2017 قدرت منظمة الصحة العالمية أن عُشر الأدوية، التي تباع إلى البلدان منخفضة الدخل أو المتوسطة منها كانت على ما يعتقد دون المواصفات القياسية أو حتى مزيفة، وعلى أساس هذه النتائج قدرت الدراسات أن ذلك يمكن أن يسفر عن وفاة ما يصل الى 285 ألف طفل سنوياً بسبب مرضي الملاريا والالتهاب الرئوي. ومع أن المنظمة المذكورة لم تنشر أرقاماً حديثة عن تلك النتائج، فإن البيانات محدودة بشأن حجم تلك الادوية التي مصدرها الهند على وجه الدقة.


النظام العالمي لتوفير الأدوية 

يتألف النظام العالمي لتوفير الأدوية من شبكة واسعة شديدة التعقيد. فحتى نهاية العام 2021 كانت الهند تنتج 62 بالمئة من المواد الخام التي تستخدم في صناعة الادوية، وهي المواد التي تعرف بالمكونات الصيدلانية الفعالة، أما الصين فتنتج نحو 23 بالمئة منها، وبالمقابل فإن الولايات المتحدة وأوروبا تنتج معظم ما تبقى من تلك المواد الخام. ويتم شحن هذه المكونات الى أنحاء العالم لتتحول إلى أدوية يتم فحصها من قبل الجهات التنظيمية لكل بلد بدرجات متفاوتة من دقة الرقابة ومعايير 

الجودة. بعد ذلك تدخل الادوية واللقاحات الناتجة ضمن شبكة معقدة من سلسلة التوريد والتوزيع إلى أن ينتهي بها المطاف بأن تصرف الى نساء حوامل في سريلانكا أو أطفال يعانون من السعال في غامبيا.  

الوفيات التي وقعت مؤخراً تبعث في النفس شعوراً قوياً بأننا نشهد ظرفاً سبق أن مررنا به. فعندما انتشر فايروس نقص المناعة خلال اعوام التسعينيات كان هناك حجر مفروض على العلاجات الجديدة المضادة للفايروسات القهقرية، التي تم تطويرها في الولايات المتحدة بموجب احتكارات براءات الاختراع، الأمر الذي أبقى الأسعار مرتفعة وأخّر طرح الادوية التي لا تحمل علامات تجارية معروفة بأسعار ضمن طاقة 

التحمل. بذلك حالت الاحتكارات دون وصول هذه العلاجات المنقذة للحياة الى المرضى في افريقيا (حيث كانت أزمة فايروس نقص المناعة تتسع وتتنامى مثل كرة الثلج) لمدة قاربت عقداً من الزمن. وبحلول نهاية العام 2003 وحده تم تسجيل إصابة ما يقدر بثلاثة ملايين شخص في افريقيا جنوب الصحراء لم يكونوا قد تعرضوا للإصابة سابقاً، وتوفي أكثر من مليوني إنسان تأثراً بمرض الأيدرز. وعندما حل العام 2004 كان ثلثا السكان تقريباً (نحو 25 مليون شخص) في تلك المنطقة؛ التي كانت تضم نسبة تقارب آنذاك عشرة بالمئة من تعداد سكان العالم، يتعايشون مع إصابتهم بفايروس نقص المناعة. بيد أن هذه المأساة كانت نتيجتها واحداً من أعظم النجاحات في فضاء الصحة العالمية وإن كان أقلها صدى. 

بحلول العام 2001 كانت شركة "سيبلا"، وهي اكبر شركة هندية لصناعة الأدوية، قد باشرت إنتاج علاج مضاد للفايروسات القهقرية تقل كلفته عن دولار واحد في اليوم. خلال تلك الفترة لم تكن براءات الاختراع على المنتجات الصيدلانية قد أقرت بموجب القانون الهندي، ما سمح بإنتاج الأدوية المصنّفة نوعياً في الهند بتطبيق أسلوب الهندسة العكسية على الأدوية المضادة لفايروس نقص المناعة، وكانت تلك لحظة نجاح فاصلة. مع حلول العام 2002 كان معدل الكلفة السنوية لمضادات الفايروسات القهقرية قد انخفض من سعره في أعوام التسعينيات، الذي قارب 15 ألف دولار للمريض، الى ما يقل عن 300 دولار، وكانت الهند في طريقها لأن تتبوأ 

موقعها كصيدلية للعالم.


برنامج تأهيل الأدوية المسبق

مع تدفق العقاقير المنتجة في الهند الى مختلف انحاء العالم بدأت منظمة الصحة العالمية العمل خلال العام 2001 على وضع برنامج رائد لمراقبة مواصفات السلامة والجودة النوعية اطلق عليه "برنامج تأهيل الأدوية المسبق"، وقد أقر هذا البرنامج معايير عالمية قياسية لأدوية فايروس نقص المناعة التي تصنع في الدول المختلفة. بعد عام من ذلك توسع البرنامج فشمل الأدوية المستخدمة لعلاج السل الرئوي والملاريا ايضاً، وهكذا بزغ أمل جديد في المعركة ضد ثلاثة من اخطر الأوبئة التي عرفها زمننا. كان هذا البرنامج إحدى السياسات التي لم تنل حقها من الذيوع والصدى، رغم انه هو من أبقى البنية الصحية في العالم 

تدور. أصبح "برنامج تأهيل الأدوية المسبق" سلطة فعلية أملاها الأمر الواقع بالنسبة للدول النامية تتولى إصدار الموافقات على الأدوية، وهو اليوم الجهة التي تكفل سلامة أكثر من 1700 منتج طبي من بينها ادوية ولقاحات ووسائل تشخيص الى جانب طائفة واسعة اخرى من المعدات الطبية ووسائل السيطرة على الأمراض، ومع ذلك فإن هذا لا يغطي جميع الأدوية الاساسية، وهي قائمة تتولى منظمة الصحة العالمية تحديثها بشكل منتظم، تضم مئات العقاقير التي تتراوح ما بين المضادات الحيوية والمواد الأفيونية ومواد التخدير، التي تعتبر ضرورية لعمل أي نظام أساسي يعنى بالرعاية الصحية.

والواقع أن البرنامج المذكور ينبغي توسيعه ليشمل هذه الأدوية جميعاً، بيد أنه يعتمد بدرجة كبيرة على التمويل الطوعي والخيري، المتذبذب وغير الثابت، الذي تقدمه منظمات مثل مؤسسة غيتس. توسيع البرنامج يتطلب بالتأكيد مزيداً من التمويل الذي يجب ان تتولاه الدول الاعضاء في منظمة الصحة العالمية.

بوسع الجهات التنظيمية الأميركية والأوروبية ايضاً أن تجري عمليات تفتيش ميداني خاصة بها خارج تلك الدول على المنشآت التي تضخ الادوية الأساسية، وهي تقوم بذلك فعلاً. فالهند مثلاً هي صاحبة اكبر عدد من المصانع المصادق عليها من قبل إدارة الغذاء والدواء الأميركية خارج الولايات المتحدة، لكن العديد من الدول النامية الاخرى لا تزال تعيش وضعاً هشاً. 

الوفيات التي وقعت مؤخراً اجتذبت الاهتمام مجدداً بسلامة الأدوية، ويعمل الاتحاد الافريقي حالياً على انشاء وكالة خاصة به لتنظيم الأدوية. وقبل بداية شهر تشرين الأول من العام الماضي أوصى فريق عمل تابع لحكومة غامبيا بمقاضاة الحكومة الهندية بشأن شراب السعال القاتل، رغم ذلك دفعت ادارة رئيس الوزراء الهندي "نارندرا مودي" خلال شهر تشرين الأول الماضي بمشروع قانون عبر البرلمان ابرز ما يتضمنه هو تخفيف العقوبات التي تصدر بحق من ينتجون أدوية دون المواصفات المقرّة، وهذا يبرز خلل الاعتماد على الدول المنفردة في التصدي للمشكلة.


تدارك الأخطاء وتصحيح المسار

على الهند أن تصحح مسارها لمصلحتها هي قبل غيرها، لأن نموها وتحولها الى بؤرة طاقة لإنتاج الأدوية المصنفة نجم عنه تلويث أنهارها بمخلفات المضادات الحيوية، الأمر الذي أسفر عن توليد جراثيم خطيرة عالية المقاومة للمضادات الحيوية، وقد جعلها هذا بؤرة ساخنة لنشاط جرثومة السل المقاومة للعقاقير والادوية على نطاق العالم. اما بالنسبة لبقية أنحاء العالم فإن الفائدة الرئيسة، التي جنتها من تحول الهند الى صيدلية للفقراء هي كسر سيطرة شركات الدواء الكبرى على الأدوية المنقذة للحياة، لكن اذا ما وقع المزيد من الحالات التي سببها ادوية قاتلة اخرى هندية المنشأ، فسيكون من شأن ذلك تقويض الانجاز الايجابي من خلال الحاقه أذى لا سبيل الى اصلاحه بالسمعة العالمية التي احرزتها الأدوية زهيدة الثمن.

الواقع يقول إن استجابتنا لجائحة كوفيد لم تكن بمستوى الكمال، ولكنها أثبتت أن العالم قادر على توحيد جهوده بمواجهة الأزمات الطارئة وتصعيد وتائر انتاج اللقاحات وتعجيل سرعة صرفها واستخدامها. واليوم يجلس اعضاء منظمة الصحة العالمية للتباحث حول معاهدة جديدة تتعلق بظروف الجائحة .. وهي معاهدة ما كان بالامكان تصورها قبل سنوات قليلة. خلال الشطر الأعظم من فترة الجائحة أبدت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا وغيرها من الدول المتقدمة موقفاً موحداً لحماية احتكارات براءات اختراع مصنعيهم الذين ينتجون لقاح كوفيد، وبهذه الهمة نفسها والتضامن ينبغي أن تواجه مشكلة الأدوية غير المطابقة للمعايير. 

يجب أن تكون المساواة في الحصول على العناية الصحية اللائقة شأناً متصلاً بالحقوق المدنية على مستوى العالم، بغض النظر عن مستوى الرفاه الاجتماعي أو الجنسية أو العرق. وإلى أن يكفل هذا الحق سوف يبقى ملايين البشر مكشوفين بلا حماية عرضة للجائحة التالية.


عن صحيفة {نيويورك تايمز} الأميركية