رسائل نساء آشوريات
دوري بوسكارين
ترجمة: مي إسماعيل
سلطت ألواح مسمارية عمرها أربعة آلاف عام الضوء على الحياة الشخصيَّة لسيدات أعمال بلاد ما بين النهرين. وتتحدث اللقى الطينيّة المنحوتة بقلم القصب والمكتوبة باللغة المسماريَّة أن والدي إمرأة آشورية اسمها {زيزيزي-Zizizi} شعرا بالغضب تجاه ابنتهما، التي تزوجت (كما هو حال الكثير من بنات الأسر المجاورة في ذلك الزمان) من تاجر آشوري حسب رغبة والديها، وارتحلت معه إلى مدينة كانيش؛ التي تقع حاليا ضمن أراضي تركيا؛ حيث يتاجر بالمنسوجات.
وكان ذلك الحدث بحدود العام 1860 ق. م.. ولكن بعد وفاة زوجها لم تعد زيزيزي إلى والديها؛ وإنما اختارت الزواج بأحد السكان المحليين. فكتب لها والدها "إمدي إيلوم-Imdi-ilum" قائلا: "أقول امام الله انك لا تعاملينني، وأنا والدك "إمدي إيلوم" بالاحترام كرجل مهذب! لقد تركتِ الأسرة، ونحن لسنا مُهمين في نظركِ". كذلك وقّعت والدتها "عشتار بشتيIshtar-bashti " على الرسالة. لكن الأسرة لم تكن تعترض على الزواج الثاني؛ إذ ذكّرا ابنتهما إنهما دعما زواجها الثاني ماليا؛ لكنهما استهجنا حقيقة أن زيزيزي لم تقم بعد الزواج بمساعدة أسرتها لتصدير الانسجة إلى الأناضول.
كانت الرسالة مكتوبة بالخط المسماريّ على رقيم طينيّ صغير، بواسطة قلم من القصب؛ كما هو سائد في ذلك الزمن. وكان الرقيم غالبا ما يوضع قرب منزل الأسرة بمدينة آشور قرب نهر دجلة في العراق حاليا، وذلك لكي يجف تحت حرارة
الشمس. ثم كان الرقيم يُلف بقماش رقيق ويوضع داخل حافظة طينيّة. وكما كان الحال في أغلب المراسلات الآشوريّة؛ وضع كاتبا الرسالة (والدا زيزيزي) توقيعهما عليها؛ أي- طبعة بالختم الاسطواني الشخصي الخاص بكل منهما، وهو أسطوانة حجريّة صغيرة تتدلى من حبل حول العنق ويقوم صاحبها بدحرجتها على سطح الظرف، لتترك طبعة شريطيّة.
كان ختم عشتار بشتي يصور شخصيّات طويلة تشبه الغزلان لها قرون ممتدة، ويتكئ كل منها على عصا. وهو ختم متفرد يخص صاحبه، وهو أشبه ما يكون ببطاقة تعريف الشخصيّة؛ لكي تعرف زيزيزي بأنّ الرسالة قادمة بالفعل من والدتها. ثم جرى تحميل الرقيمات على ظهور قوافل الحمير ونقلها لنحو 1200 كيلومتر لمدة ستة أسابيع عبر السهوب السورية، وجبال طوروس جنوب شرق تركيا، وأخيرا عبر سهول الأناضول إلى كانيش؛ حيث استقرت زيزيزي في حياتها الجديدة وبدأت مهنة ناجحة بإقراض المال، وهناك أيضا قامت بخزن تلك الرسالة مع ارشيفها المنزلي الخاص.
ارشيفات خاصة
بعد نحو أربعة آلاف عام اكتشف المنقبون الرسالة الغاضبة أثناء أعمال التنقيب وسط موقع كانيش؛ المدينة القديمة وسط تركيا، المعروفة الآن باسم "كولتبه-Kültepe". حيث عُثِر هناك على أكثر من 23 ألف رقيم طينيّ، وقامت عالمة الآشوريات والنقوش "سيسيل ميشيل" من المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي بتسجيل وترجمة نحو ثلاثمئة لوحة لرسائل كتبتها أو تلقتها نساء ينتمين إلى طبقة التجار الآشوريين ذوي الثقافة العالية. تقول ميشيل: "من خلال دراسة المراسلات الخاصة نتعمق أكثر ونقترب من الناس.. إنها نقيض للغة المراسلات الرسمية؛ حيث هناك مسافة كبيرة بين من يكتب وبين من يُفكّر".
تُمثل النصوص المكتشفة في كولتبه أقدم مجموعة مهمة من المراسلات في العالم؛ لكن لم يجرِ ترجمة ونشر سوى أقل من نصفها. كما أن أغلبها حافظت على بقائها بالصدفة؛ لأن هناك حريقا كبيرا كان قد دمّر مدينة كانيش خلال العام 1853 ق. م.، ما أدى إلى تعرض الكثير من تلك الرقيمات إلى حرارة نار شديدة ومن ثم تصلبها داخل أماكن حفظها حيثما هي في ارشيفات المساكن الخاصة. وعلى الرغم من أن احتمال كون ذلك الحريق حادثا عرضيا؛ لكن الكثير من الباحثين يعتقدون أنه نتيجة لعمل حربي. يقول "جويكو بارياموفيتش" عالم الآشوريات بجامعة هارفارد؛ الذي قضى جزءاً كبيرا من مسيرته المهنية بدراسة الرقيمات المكتشفة في كانيش: "هكذا تماما وقع تدمير كانيش؛ فقد خرج الناس، ولا يوجد قتلى في المنازل ولا هياكل عظمية بسبب تلك النار.. لا بد أنه قد جرى تحذيرهم. غير إنهم لم يستطيعوا أخذ محتويات ارشيفهم
معهم". والواقع أن تلك الارشيفات الخاصة لم تكن تضم الرسائل الشخصيّة من عوائل التجار الآشوريين فحسب (مثل عائلة زيزيزي)؛ بل سجلات المعاملات المالية والديون والعقود فيما بين الناس. وقامت بعض الجهات باستخراج الكثير من تلك الرقيمات بعد حفريّات سرية خلال القرنين الماضيين، ثم توزعت الموجودات على المتاحف حول العالم. وما زال فريق برفقة عالم الآثار "فكري كولاك أوغلو" من جامعة أنقرة يواصل إكتشاف المزيد منها.
توثيق لحياة مزدهرة
خلال العصر الذي تمت فيه كتابة تلك الألواح، كانت مدينة آشور (موطن أولئك التجار) واحدة من دول المدن، فكانت دولة- مدينة صغيرة مستقلة، ذات نفوذٍ إقليمي صغير. ولكن بعد نحو ألف سنة من تلك الفترة المزدهرة أصبحت مدينة آشور ضمن قلب الامبراطوريّة الآشوريّة الجديدة الشاسعة. وأقام أولئك التجار الآشوريون الأوائل طرقا تجارية واسعة النطاق، تمتد من وسط الأناضول إلى جبال زاغروس في إيران المعاصرة. كما أقاموا محطات تبادل تجاري عبر المدن المار عليها ذلك الطريق الطويل. وتوضح رقيمات الكتابة المسماريّة التي أرسل التجاور إلى موطنهم انهم حافظوا على زيجات بعيدة المدى مع النساء الآشوريات اللاتي يُدِرنَ أسرهم في آشور.
ونمت بعض المراكز التجارية (مثل تلك الموجودة في كانيش) وتطورت إلى مناطق تجارية بأكملها داخل المدن الأجنبية؛ حيث عاشت زيزيزي.
وترى ميشيل ان تلك الرسائل من زوجات التجار الذين بقوا في آشور تُثبت أنهن شكلن جيلا فريدا من النساء الآشوريات اللاتي تقدمن لقيادة أسرهن وسط مجتمع يهيمن عليه الذكور عادة؛ قائلة: "كانت حياتهن تدور حول حقيقة أنهن وحيدات غالبا في آشور؛ وبمجرد أن تكون المرأة بمفردها، تصبح أكثر توثيقا "للحياة"؛ لأنها تشارك مع قريناتها
بتطوير الحياة الاقتصاديّة والمجتمع".
عن المنزل والقلب
غالبا ما تبدأ الألواح الآشوريّة بصيغة استفتاحية تُخاطب المُستلِم وتحدد المُرسِل. وعلى الرغم من شيوع حالة توظيف الكَتَبَة لأجل التدوين عبر تاريخ بلاد الرافدين؛ لكن الكثير ممن أرسلوا الرقيمات التي وجدت في كانيش استخدموا صيغة أفعال معينة تشير إلى أنهم كانوا يكتبون اللوح بأيديهم وليس عبر الكتبة.
وفي أحيان عديدة كان هؤلاء المدونون من النساء؛ إذ ظهرت أسماء النساء (إما من خلال الارسال أو من خلال التلقي) على ما لا يقل عن عشرة بالمئة من رسائل كانيش.
وبقيت رسائل النساء تلك لعدة سنوات صعبة الترجمة على الباحثين، كما يرى بارياموفيتش؛ إذ تميل الألواح التي كتبتها النساء الآشوريات إلى استكشاف موضوعات نادرا ما يطرقها نظراؤهن من الرجال، مثل قضايا تخص المنزل والقلب. وتنحو لاستخدام كلمات مثيرة يندر وجودها في ألواح مسماريّة أخرى؛ قائلا: "لم يكن متوقع من الرجال في ذلك المجتمع التعبير عن العواطف، وحينما كانوا يعبرون عنها أحيانا؛ كانوا يتعرضون للعتب".
يعود تأريخ الجزء الأكبر من ألواح كانيش إلى ما بين سنوات 1900 و1840 ق. م. تقريبا، وعلى امتداد العقود الأخيرة، وإذ تعرّف علماء الآشوريات على المزيد من المفردات المستخدمة في الرقيمات الطينيّة؛ تمكن هؤلاء العلماء من تفسير المزيد من رسائل النساء.
برغم أن القوانين الآشورية الصادرة خلال تلك الحقبة من الزمن كانت تقضي بأن المرأة مرتبطة بأقاربها الذكور ولا تتمتع بالحريات نفسها التي يتمتع بها الرجل؛ بيد أن ارشيف كانيش قدّم الأدلة على أنّ النساء لم يكّن خاضعات على امتداد الزمن.
فالألواح التي كتبتها النساء أشارت إلى أنّه كانت لهّن أدوار حاسمة ضمن حركة شبكات التجارة، وأنهن أدرن الشؤون المالية والعمال، وطالبن بمواقف مجتمعية لتحسين حياتهن؛ كما تقول "أغْنيتاي ويستي لاسن" عالمة الآشوريات بجامعة ييل: "إنها أفكارهن وكتاباتهن؛ وليست تفسيراتنا لتلك الكتابات.. هناك قيّمة عميقة لذلك، وهي أن تُسمع أصواتهن".
مجلة علم الآثار
{Archeology magazine}