مرتضى الجصاني وجماليّة التحليق في المخطوطات القديمة

ثقافة شعبية 2024/01/11
...

 نصير الشيخ

       

ـ كيف لنا الإمساك بجماليات التلقي في الخط العربي، هذا العنوان الواسع والمرتكز في بنيته النصوصية إلى " القرآن" والشـعر العربــي والمخطوطـات 

القديمة..؟

وعُدت النقطة مورداً عرفانياً حاملا صفاته البلاغية وسره الكوني المتطامن في المعنى. وظلت متداولة في الشعر مهيمناً بؤرياً وفي النثر مركزاً انبعاث للما حول. في مظانها الدلالات الكبرى ونسوغها القاموس العرفاني.  ومساحة الكشف لدينا عن النقطة تدفعنا لتتبع الجذر الأيقوني لها، ونقع على الحسين الحلاج في مقولته بقوله " وأدق من ذلك ذكر النقط، وهو الأصل لا يزيد ولا ينقص ولايبيدُ".كتاب الطواسين ص11.

مركزية النقطة هنا تقودنا للبحث والكتابة عن الخط، الحاضر كوجود متجدد والغائر كأثر لامع والقابع من بين بطون الكتب والمخطوطات، والعابر للأزمنة والناطق بالفعل الإنساني وهو يروي حكايته على هذه 

البسيطة.

والخطاط الشاب مرتضى الجصاني اتخذ زاوية في " تكية" الخطوط وصوفيتها وتعامل مع كيمياء أحبارها. وسوّد الكثير من الخطوط على الورق، حاملا مفاتيح " ابن مقلة" مقتفيًّا أثره لترسيخ هذا الكون اللساني ببلاغته ورمزيته وسرانيته عبوراً لتجريدتيهِ، وصولا إلى المطلق المكتنز بحروفه وآوفاقه. ولأن الخط العربي يهجس بالمعنى دائما، حاملا رسائله الوعظية والإبلاغية ويتشكل تباعاً سلاسل ايقونية ترسم وجودها على الورق وبأنواع عدة من الخطوط كلها تصب في نهر العرفان. ولكل حرف " إشارة" وبتجمع الحروف تصبح 

أمما.

مرتضى الجصاني يحضر هنا رساماً مجيداً، يأخذ الحرف من منابعه " القرآن ــ القصيدة ــ الحكمة ــ القول المأثور..الخ ".. ويغسله بماء الروح ويقيم معه حواراً يفرغه من ثيمته المدرسية ــ قولاً ونطقاً ــ ليطاوعه ُعلى مسارات رؤاه وحداثة أسلوبه في ترسيم شكل العمل الفني، وبما يمنحنا بهجة وحبورا متأتيًا من نوع الخطوط المستخدمة وانسيابية الحرف على السطور المخفية وبخفةِ العارف بموسقة الحرف ومكامن

انوجادهِ.

ــ ترى هل هو اختزال المعنى في هذه الاشتغالات..؟ أم هو كسر النسق القاموسي/ البلاغي لتاريخ الخط العربي..؟

أرى أنه التجديد عابرٌ صيغته " الوظيفية" إلى أبعاد اكثر تحرراً ومن ثم تحويل مسار الحرف من "النطق" إلى الجهر بـ" الجمال".. كلها في تمظهرات حية وخصبة تشكلت على هيئة لوحات لا تتشابه في العنوان أي لا تخضع لتسلسل كرنلوجي، وانما كل عمل فني هو قدرة إيحائية وتنصيص لوني حاضرا ك" واقعة شيئية ". يأخذ التفرد مداه في أعمال الجصاني حيث الحرف يندغم لصالح التشكل الرسموي وبمختلف الهيئات، والنطق يستكين إلى بلاغة صمت امام نوع الشكل، وتنسرب مداخل الحرف ومخارجهِ أزاء تقنية العمل ومهارة الفنان. وبالتالي نمسك خلاصة مفادها ــ ينزاح الحرف عن وزنه العالي وجرسه اللفظي لصالح إيقاعٍ جمالي خالص.

تتشكل جملة حروف عربية على " شكل طائر" تكتسي باللون الأخضرمغادراً مكانا ما صوب سماء ناصعة تتبعهُ طيور أو حروف متناثرة أو رؤى العارفين نحو سماوات الصحو، شكل الطائر يخطف أبصارك ويحل هناك في جزر الواق واق. 

وبالعودة إلى النقطة هي " صمت " فهل غادرت صمتها نحو مدارج أكثر عرفانية في حروفيات الفنان، من هنا أوشيرُ وفي أكثر من عمل أن اختزال الحرف في منطوقهِ هو نوع من " الانخطاف البصري" اختزال يذهب إلى التجريد، لا ليقول كلمتهِ، وانما يترك لنا إسهامة الرائي عن تخوم المعنى.

مرتضى الجصاني في أعماله " حروفياتهِ"..فتح لنا مساحة للتذوق الجمالي في مداه الحر مغادرا نوعا ما " كلاسيك" البنط والفونت نحو حداثة تستجيب لدوافع الفنان ونزوعه النوعي في المطابقة والاختلاف، عابراً بنا من منطوق " النص" وبلاغته إلى حيوية " الشكل" وقدرته الإيهامية على منحنا الكثير من التأويل، ونحن نقف أمام أعماله وحروفياته. ذلكم ما يمنح حرية الشكل هذا ومعمارية التشكل هو مهارة تطويع الحرف وانسكابه على سطح اللوحة/ الورقة.. مرهونة بأفق اشتغال الفنان واقتراحاته الجمالية المنتمية للمغايرة، والتمكين من اختباره عناصر تنفيذ لوحته " أحبار واكرليك ومواد أخرى" كلها تمنح حروفياته طاقة مستدامة وانبعاثاً رؤيوياً. كلها شكلت ميزة مضطردةً لمجمل أعمال الجصاني، وتمايزاً جماليا في حقل اشتغاله، منطلقة بالطبع من إتباع أصول الخط العربي كقاعدة أساسية وحفظ الصيغ الكلاسيكية، كقاعدة استناد ثقافي وفكري، ومن ثم تنامي التجربة والاتقان والاحتراف وصولا إلى التجاوز والذي هو هدف الفنان وتشكلات خطابه 

الجمالي.