والتر غروبيوس: ثائر له قضية

بانوراما 2019/05/20
...

فيونامكارثي  
ترجمة واعداد: مي اسماعيل 
كانت “الباوهاوس- “Bauhaus” مدرسة ألمانية للفنون والتصميم والعمارة؛ تأسست في 1919 وبقيت عاملة (في ألمانيا) حتى سنة 1933؛ وحينها أقفلها مؤسسوها بعد ضغوط كبيرة من النازية. أسست الباوهاوس لمذاهب جديدة في التصميم والتشكيل بمقاربات حديثة تحررت من الزخرفيات التي سادت حتى مطلع القرن العشرين. ودرّست تلك التوجهات لفنانين ومعماريين تخرجوا منها؛ وما زالت تأثيراتها باقية حتى اليوم.
نشأت الباوهاوس على يد المعماري الألماني “والتر غروبيوس- Walter Gropius” في مدينة “فايمر-Weimar” الألمانية. 
ورغم أن كلمة باوهاوس تقصد- “مدرسة البناء”، ورغم أن مؤسسها معماري؛ فأنها لم تمتلك أساسا أي قسم لدراسة العمارة؛ بل قامت على مبدأ- “Gesamtkunstwerk” ويعني: جمع كافة نواحي الفنون (ومنها العمارة) لانتاج أعمال متكاملة. 
أصبحت الباوهاوس من التيارات الأكثر تأثيرا في التصميم والعمارة والفن الحديث، وفي التعليم المعماري بكافة جوانبه. ترأس المدرسة ثلاثة معماريين: غروبيوس (1919- 1928)، هانس ماير (1928-1930)، وميس فان دي رو (1930-1933)، وهو الذي أقفلها تحت الضغوط النازية؛ التي اعتبرتها مركزا للثقافة الشيوعية. ورغم اقفال المدرسة، استمر طلبتها وقادتها بنشر مبادئها الفنية بعدما غادروا ألمانيا وانتشروا حول العالم. أنتج التغير في موقع المدرسة ومدرائها تحولات مستمرة في ما ركزت عليه من نقاط البحث والتكنيك الفني والمدربين وسياسات التعليم. لكن الطابع الذي أرساه والتر غروبيوس بقي علامة مميزة، بما أضفاه الرجل من أفكاره ومقارباته الفنية؛ غيرت عالم العمارة والفن الى الأبد.
 
سوء الفهم
مع أن أفكار الباوهاوس انتشرت في أنحاء العالم واستمرت حتى اليوم، وهي الأكثر تأثيرا من بين مدارس الفن؛ فلماذا ما زال مؤسس تلك المدرسة شخصا غامضا عصيا على الفهم بشكل واسع؟ يتذكر عديدون والتر غروبيوس على أنه شخص فخور متعجرف، خالٍ من الجاذبية، مهتم بصورته الذاتية.. ويذهب آخرون الى حد وصفه بالمُزيَّف! فلماذا يفهمه الناس بتلك الطريقة؟ 
كان يجسد الشخصية المنضبطة الجامدة؛ لذا اعتبره البعض شخصا غير رومانسي. ولعل تلك الصورة جاءت من مذكرات زوجته الأولى “ ألما ماهلر”؛ إذ قدمته على أنه قليل الشأن مقارنة بأزواجها الآخرين. وهذا انسحب على نظرة البعض الى حركة الباوهاوس على أنها مملة وقليلة
الأحداث! 
لكن غروبيوس كان في الواقع شخصية جذابة؛ ولعل أهم دلائل هذا الرأي ما ظهر من سجلات تأريخية عن علاقاته مع اثنتين من النساء المتميزات: الفنانة “ليلي هيلدبراندت” والشاعرة “ماريا بنيمان”؛ إذ حفلت رسائل حبه لهما بمشاعر فاجأت أولئك الذين يتصورون أنه يفتقر إلى العاطفة. 
ومن المفاهيم الخاطئة الأخرى التي سادت عن غروبيوس أنه كان جرمانيا عنيدا غير مرنٍ في وجهات نظره الوظيفية. لكن هذا المنظور الكئيب لم يكن واقعيا؛ فقد نادى غروبيوس بأن تكون التصاميم الحديثة.. “نظيفة وبسيطة”.. لقد كان ببساطة يحب ما هو غير مألوف؛ وهو ليس بالشخص الذي يمكن توقع أعماله. 
ولد غروبيوس في برلين سنة 1883؛ وحينما كان يُسأل وهو طفل عن لونه المفضل كان يقول: “الألوان المتعددة “Multicoloured” هي لوني المفضل”. إعتنق غروبيوس التعددية؛ مؤيدا لمنظور شامل لإمكانيات الحياة. 
وكان معماريا حقق أقصى استفادة من أوقات الفراغ والقراءة على نطاق واسع. تراوح ذوقه الموسيقي من سترافينيسكي الى البيتلز؛ وكان حداثيا وضعه تاريخ العمارة موضع التقدير. 
 
“الجدال جوهر الفن” 
أُعجب غروبيوس حينما عاش في لندن ثلاثينيات القرن الماضي بمنازل القرن الثامن عشر ذات الشرفات والديكورات البسيطة. انطلقت حركة الباوهاوس من تجربة غروبيوس الصادمة في الحرب العالمية الأولى؛ إذ قضى أغلب أوقاته محاربا في الجبهة الغربية. ووصف تلك التجربة لاحقا بأنها.. “كما في ومضة للبرق.. لا بد أن يزول القديم..”. 
وكان رد فعله المنطقي الوحيد هو البدء من جديد؛ وهذا ما إتخذه مبدأ نموذجيا في الباوهاوس (كما فعلت نقابة عمال الحجارة في القرون الوسطى).. مجتمع من الفنانين والحرفيين الخبراء يعملون معا لهدف موحد. 
تضمن نص اعلان منشور الباوهاوس الأصلي ومنهاجه لغة جميلة سامية المعاني (مع بعض الديمقراطية)؛ قال فيها غروبيوس: “دعونا معا نرغب ونتصور وننتج هيكلية المستقبل الجديدة؛ التي سترتفع ذات يوم حتى السماء، من أيادي ملايين العاملين؛ كأنها رمز بلوري لإيمان جديد”. 
تصور غروبيوس مدرسة الباوهاوس موقعا للمحاججة الإبداعية والنقاش، واستطاع عبر السنوات توظيف هيئة متعددة المواهب من المدرسين؛ كان منهم- بول كلي، فاسيلي كاندينسكي، يوهانس إيتن، أوسكار شليمر، جوزيف ألبرز، مارسيل بروير، ولازلو موهولي ناغي. 
كان عليه التعامل مع كيانات فنية متصارعة تتحلى بالغرور؛ لكن الصدام الإبداعي في الرأي كان شيئا قدره كثيرا. كان الجدال جوهر الفن؛ ويمكن تشتيت التوتر دائما باقامة الحفلات التنكرية وتنظيم المهرجانات التي صار الباوهاوس مشهورا بها.
كانت هناك مدارس فنية تقدمية اخرى في أوروبا؛ لكن أحدا لن يضاهي التزام الباوهاوس بالحرية الابداعية.. ومن هنا نشأ مبدأ المدرسة الفنية كموقع للثورة. 
إتهم غروبيوس بأنه “بطل المباني المرتفعة” والمسؤول عن تدمير المدن؛ وهذه من أكثر الاهانات الموجهة اليه ضررا في التأثير. 
ظهر هذا الهجوم أثناء مرحلة صعود عمارة ما بعد الحداثة، وشمل عددا من أشهر معماريي الحداثة، منهم- لي كوربوزييه وميس فان دي رو 
أيضا. 
تحدث غروبيوس بالفعل متحمسا لفوائد المباني متعددة الطوابق (خاصة الشقق السكنية) كونها وسيلة لحل مشاكل اكتظاظ المدن. لكنه كان انسانيا ومحبا للبيئة الطبيعية؛ ولم تكن آراؤه عن المباني المرتفعة أبدا عقائدية صارمة. 
 
بين النازية والمنفى 
انتقلت الباوهاوس (تحت ضغط اليمينيين المحليين) سنة 1925 الى ديساو؛ وهي مدينة صناعية شمال فايمر. هناك صمم غروبيوس مبنى خاصا بالمدرسة (يعتبره البعض من أفضل اعماله)، ومجموعة مساكن للمدرسين.
استعادت المدرسة حس الطاقة الفنية والهدف، بتركيز غروبيوس الجديد على دمج التكنولوجيا بالفن. لكن باوهاوس ما لبثت أن واجهت عداء متزايدا من الحكومة المحلية، وتناقصت الموارد. أنهكت المهاترات غروبيوس وفقد ايمانه بمستقبل المدرسة؛ فاستقال أخيرا. 
انتقل سنة 1928 الى برلين وأعاد افتتاح مكتبه المعماري.. وفي غضون سنوات قليلة واجه أكثر معضلات عصره فظاعة. 
بقي مدى تعاون غروبيوس مع النازية (بعدما صار هتلر مستشارا لألمانيا سنة 1933) مسألة أثارت جدلا طويلا؛ إذ شارك ببعض المشاريع المعمارية (والدعائية) للسلطة النازية (منها مشروع “بنك الرايخ” ببرلين، الذي رُفض). 
كانت الاغراءات مفهومة؛ فلديه مكتب كبير يحتاج للتمويل، وهو يعتبر نفسه ألمانيا وطنيا، ولم يكن يهوديا فيضطر للمغادرة. لكن النظام النازي أنكر كل ما آمن به غروبيوس والحريات الفنية التي نادى 
بها. 
أما ارتباطاته بفناني “النخبة الطليعية” وبعضهم ممن يعتبرهم النازيون “فنانين منحطين” فلم تترك له خيارا سوى الهجرة. ويرى البعض أنه لو كان قد بقي في ألمانيا لكان المطاف قد انتهى به في معسكر إعتقال!
في سنة 1934 غادر غروبيوس ألمانيا على عجل الى بريطانيا عبر روما؛ ليعيش ثلاثين سنة في المنفى. وفي ذلك الحين انتقلت الباوهاوس لآخر مرة الى برلين، ثم أغلقت أبوابها أخيرا تحت الضغط النازي. وظهرت صور مروعة لطلبتها وهم يساقون للإستجواب لدى “قوات العاصفة”. 
 
“ثلاث حيوات”
شرع غروبيوس الآن بالمرحلة الثانية مما أسماه “حيواته الثلاث”، فعاش في شمال لندن. كان في حينها لا يحُسِن الانكليزية جيدا، وليس معه وزوجته نقود كافية؛ إذ لم يستطع إخراج مقتنياته من 
برلين. 
كانت المقاييس والأوزان البريطانية مسألة محيرة له، وبقي قلقا حول العيش في مكان وصفه قائلا: “دولة لا فنية؛ حيث الخضروات غير مملحة والنساء نحيفات والتيارات الهوائية مثلجة على الدوام”.
كان غروبيوس محظوظا نوعا ما؛ إذ أُعطي سكنا مجانيا في شقق “لون رود” بضاحية هامستيد اللندنية، وهو إحد المشاريع الحديثة القليلة حينها. أسس غروبيوس شراكة معمارية جديدة، لكنه عاش فترة مشتتة كما جرى للعديد من المنفيين الآخرين؛ وبقي قلقا على من تركهم وراءه. 
وتعرض للنقد لإبقاءه على أواصره الرسمية مع ألمانيا؛ إذ تحاشى التعليق على السياسات النازية أو انتقادها.. لكنه بقي تحت المراقبة. 
تناغم غروبيوس مع بعض نواحي العيش بلندن؛ فكان له أصدقاء كثيرون بهامستيد (منهم مهاجرون أوروبيون مثله)، صار “لون رود” موقعا للقاء نخبة فناني شمال لندن. 
صمم في لندن بضعة مبانٍ جيدة؛ لكن لندن الثلاثينات لم تكن مستعدة واقعيا لتقبل غروبيوس؛ إذ لم يتذوق البريطانيون عموما العمارة الوظيفية “functional architecture”.. وفقد غروبيوس مشروعا بعد آخر. 
غادر الى الولايات المتحدة سنة 1937 بعد قبوله تكليفا لتصميم؛ وهناك أظهر مرونة ملحوظة بإعادة اختراع نفسه معلما ومُنظّرا وفيلسوف تصميم. 
يقول غروبيوس أن تعامله مع الشباب أسهل عليه من التعامل مع معاصريه؛ وثبتت صحة قوله في الباوهاوس. في أميركا جادل غروبيوس بقناعات جديدة عن أهمية تطوير الإبداع الفني لدى الأطفال وتعزيزه بالتكنولوجيا. 
في جامعة هارفارد أسس غروبيوس سلالة معمارية؛ وكان من بين طلبته كبار معماريي المستقبل: “آي أم بي”، بول رودولف، فيليب جونسون، هاري سيدلر، والمصمم الصناعي أليوت نويس. هؤلاء بدورهم صاروا أساتذة خرجوا معماريين كبار منهم: ريتشارد روجرز ونورمان فوستر. 
ما زال منظور غروبيوس في الباوهاوس حاضر التأثير في العمارة والتصميم الحداثيين؛ ولعل أبلغ الأمثلة هنا نجاح مؤسسة “إيكيا-Ikea” الكبير في جعل التصميم الحداثي في متناول الجميع. 
 
الغارديان البريطانية، 
موقع {دزين}، موسوعة ويكبيديا