دورالمكتبات في إحياء الحضارة

آراء 2024/01/15
...








 أ‌.د. طلال ناظم الزهيري


في عالم السينما، تستكشف العديد من الأعمال فكرة نهاية العالم.

وكثيرا ما يميل الإجماع نحو هذه الفكرة، مفادها بأنه على الرغم من التقدم التكنولوجي، فإن حضارتنا من الممكن أن تتراجع إلى عصر ما قبل الصناعة إذا انهارت البنية التحتية للطاقة أو تضاءلت الموارد.

وسواء كان هذا الانهيار مدفوعا بالصراعات البشرية أو التدخلات المدمرة للطبيعة، فإنها عادة تقدم نظرة مفعمة بالأمل لإحياء الحضارة الإنسانية من جديد. 

وهنا تطرح معظم تلك الأعمال أن الكتب والمكتبات وما يرتبط بهما من الجهد البشري، هما أهم ركائز إعادة بناء العالم من جديد. 

من خلال الدور الحاسم الذي تلعبه الكتب والمكتبات في الحفاظ على الإنجازات البشرية والتقدم المسجل في صفحاتها.

يركز فيلم “Time Machine” للمخرج سايمون ويلز عام 2002 على سعي عالم شاب لاختراع آلة للسفر عبر الزمن. يهدف من خلالها العودة للماضي لإنقاذ حبيبته من الموت. ولكن لخلل ما وبشكل غير متوقع، يجد نفسه في مستقبل بعيد انهارت فيه كل مظاهر الحضارة والتمدن بسبب كارثة سببها الإنسان. 

في سياق الأحداث، يلتقي هذا العالم بأمين مكتبة نيويورك العامة، الذي فوجئ بأنه قاعدة بيانات ضخمة على شكل صورة ثلاثية الأبعاد

 [hologram]. 

يكتشف بطل القصة أن العالم في المستقبل هو عالم بدائي نتيجة كارثة حلت به، ورغبة منه في إعادة الأشياء إلى معناها الحقيقي يستعين بأمين مكتبة الهولوغرامي لتعليم الأطفال المعرفة البشرية مرة أخرى بالاستعانة بالموروث المعرفي للحضارات البشرية عبر الزمن والذي كان محفوظا في المكتبات.

وفي رواية مختلفة، يستكشف فيلم “اليوم التالي للغد”(The Day After Tomorrow) عام 2004 العالم وهو يتعرض لموجة صقيع تهدد العالم بالعودة إلى العصر الجليدي.

وهنا تظهر المكتبة كملاذ آمن لمجموعة من الناجين، ومن المفارقات، في هذا الفيلم، أن الرغبة في البقاء دفعتهم إلى حرق الكتب. 

مع معارضة شديدة من أمين المكتبة، الذي رضخ في النهاية عن معرفة أن هناك نسخا أخرى من هذه الكتب.

من ناحية أخرى، رفض بشدة حرق الكتاب الأول المطبوع في مطبعة جوتنبرج لأنها كانت النسخة الوحيدة المتبقية، بالتأكيد لم يكن من قبيل المصادفة اختيار المكتبة والكتب كمنقذ للبشرية في مثل تلك الظروف.

يتخذ فيلم “Book Of Eli” الذي تم إنتاجه في هوليوود عام 2010، نهجا فريدا لموضوع نهاية العالم، الذي تدور احداثة حول الصراع بين إرادتين للسيطرة على آخر موروث معرفي المتمثل في النسخة الأخيرة من (الانجيل) الذي يراد به أحكام السيطرة على ما تبقى من البشر. 

ومن خلال الصراع بين إرادة الخير والشر ويؤكد الفيلم على فكرة مهمة جدا، وهي أن المعرفة يجب أن تكون حقا عالميا، وليست أداة لطموحات فردية أو جماعية، مع التأكيد على أهميتها للمجتمع بأكمله.

في سياق من الإثارة والتشويق يستكشف مسلسل “See” عالما تفقد فيه البشرية موهبة البصر، مما يؤدي إلى تراجع المعرفة. ويثير الصراع بين الأغلبية العمياء والأقلية المبصرة تساؤلات حول الطبيعة المزدوجة للمعرفة التي يمكن استثمارها في الخير أو الشر. 

وتختتم السلسلة بتأسيس مجموعة من المبصرين مكتبة لحفظ المعرفة الإنسانية وإعادة استثمارها لبناء المجتمع من جديد. 

تشترك هذه الأمثلة، إلى جانب أمثلة أخرى، في خيط مشترك وهو الدور الذي لا غنى عنه للمكتبات في الحفاظ على المعرفة الإنسانية عبر الزمن. 

فلولا اكتشاف الألواح الطينية ولفائف البردي في المكتبات القديمة مثل نينوى والإسكندرية، لظل التراث الثقافي لبلاد ما بين النهرين ومصر القديمة مجهولا. 

واليوم، وفي خضم المناقشات حول أهمية المكتبات في العصر الرقمي، يبرز دورها حاميا للمعرفة الإنسانية من الضياع والانقراض. 

في حين توفر المعرفة الرقمية والإنترنت معلومات هائلة، تظل المكتبات محورية في حماية المعرفة من الكوارث غير المتوقعة التي قد تهدد الموارد الرقمية. ولا ينبغي النظر إلى المكتبات باعتبارها مستودعات فحسب، بل باعتبارها حراسا للمعرفة الإنسانية. 

بالتالي يمتد دور أمين المكتبة إلى ما هو أبعد من التنظيم والتيسير ليشمل حماية تراثنا الفكري والحفاظ عليه بشكل فعال، مما ينير الطريق للأجيال القادمة. وفي الوقت الذي نأمل فيه تجنب السيناريوهات الكارثية، يجب علينا أن نعترف بإمكانية وقوع أحداث غير متوقعة. 

إن تحقيق التوازن بين الاستثمارات في الموارد الرقمية والأهمية المستمرة للكتب يضمن اتباع نهج شامل لحماية المعرفة البشرية- سواء الآن أو في المستقبل.