لطيف العامري.. حين يكون الشعر سرداً

ثقافة شعبية 2024/01/18
...

 أمين قاسم الموسوي
(عشگ حامد) عنوان نص شعري عامي (شعبي) للشاعر لطيف العامري، جادت لنا به صفحة ثقافة شعبية في جريدة الصباح الصادرة في 21/ 12/ 2023، والنص يفيض شعريةً معتمداً السرد لإيصال مضمونه، مع ما في السرد من مصاعب في الشعر الغنائي، ولذلك قلّت نماذجه في الفصيح والعامي من شعرنا، ولكن الشاعر العامري ركب المركب الصعب فصاغ قصيدته سرداً ملتزماً بعناصره من مكان وشخصيات، وحدث ينمو ويتطور، وحوار موجز معبر، مبتدئاً
بقوله:
((چِنّه فُقره
وجِانت القريه الِتلمنه
قريه ميته بلا حياة و چِنّه نِتجاسم فِگرنه..
انضَيفْه كلنا، وين ما يِچْهَبْ
يِبات))
فالراوي العليم يطل علينا بضمير المتكلمين وهو واحد منهم، والمكان ريفي (قرية) يعشعش فيها الفقر، إِذاً ثمة أمران هما المكان والانتماء الاجتماعي للناس الفقراء الذين حين يكتوون بالسموم صيفاً يلوذون بأَفياء التخيل: ((ومن سموم الصيف چِنه نلوذ بفيافي النخل)) ولا يقيهم برد الشتاء سوى ((الدشاديش الفقيره))، ويُغني المشهد ببعض ما في الريف من تقاليد لها دلالتها الأنثربولوجية مثل (ديوان السلف)، الذي هو المعادل الموضوعي لمعاناة الناس حيث يبوحون في الديوان بمرارة عيشهم إذ يبث بعضهم لِبعض شكواه، مع تناول القهوة مُرةً، علها بمرارتها تمتص بعضاً من مرارة العيش (و داوِني بالتي كانت هي الداء)، فالشاعر حدد مكاناً وشخصيات (ناس)، بلقطات سريعة رشيقة ثم ينتقل من العام (الناس) الى الخاص، الى واحد منهم (حامد)، فهو شاب، والهوى والحب (العِشگ) ليس بغريب منه، وهو ريفي يساير أعراف (العشاير)، إِذ منذ الجاهلية لابدَّ أن يخلص العاشق للمعشوق، وكانت (سلمى) هي هوى (حامد)((وچان حامد عنده شوفة سلمی عيد)) و... و... فالشاعر يرسخ عند المتلقي حب حامد لسلم... والزمن لا يتوقف: ((وكبرت القرية الزغيره... وكبر حامد...)) هذه الانتقالة لا بد أن يترتب عليها انتقال و تغيير، فحامد قُبل في معهد في المدينة التي تختلف عن القرية، ويُصدم (حامد) بطباع أهل المدينة والفرق الصارخ بينهم وبين أهل قريته: ((و فارگ هوایه سوالف، وشاف وادم ما هي وادم)) كل شيءٍ قد تغير... أين الديوان؟... أين المضايف وقهوتها؟ إِنها دنيا جديدة ((... دنيا مگذِله وكلها سفور)) هذه الدنيا ستترك أثرها في جواب يأتي متسلسلاً ليخيرنا بتغيّر حامد وقناعاته، فهو لا يريد أن يسمع شيئاً عن حبه الريفي (سلمى) ((حَلِّفاني ما أجيبن طاري سلمى)) والأدهى من ذلك اختلاف المفاهيم عند (حامد) حتى ((صارْ عنوان التخلف ثوب سلمى))، فحامد صار نتاج مدينة في جانبها المظلم: ((گام يجذب من يواعد)) وقد فقد مُوحيات الصدق والجمال((فارگ عيونه الشرار وصار بارد)) وعواطفه عشعش الزيف فيها: ((گام كل ساعه يصارح وٍحده)) وبدلاً من انفتاح الريف بأنهاره وبساتينه، صار الحب في المدينة: ((گعدة مكتبة او وگفات خَتله)) هكذا أصبح حامد في المدينه، ولا ينسى الشاعر (سلمى)، فيذكرنا بها رابطاً بين ثنائيات تَغيّر حامد وثبات سلمى، کِذْب حامد و صِدق سلمى، فهي على عهدها، وإٍن تسرب الالم واليأس إلى حكاية حبها حتى أصبحت:
((... تِترسِ ماي وآتبدي بجِدرها)) هذه الصورة المكثفة تفيض يأساً وألماً وتذكرنا بصورة الكبير عريان سيد خلف : ((آنه خلاني الوكت ناعور بس اترس وبدي)) فسلمى في حركة قِدرِها: وعيونها شابحة نحو درب حامد، تسأل ولا جواب: ((وکل خميس عيونها تناشدني: ما إِجه وياك حامد)) هذا هو حالها الذي على نقيضه حامد الذي شوهته المدينة، فصار كاذب العاطفة، يلفق القصائد ويبيع الشعر في دكاكين الزيف، الحبيبات ما هن حبيبات : ((وحامد الحبه الجديد ملتهي يألف قصايد)).
يختتم الشاعر قصيدته موضحاً حقيقة حامد، فهو تجسيد لِأي من البشر، أنا أو أنت أو هو، فموقفه يحدد إِنسانيته، والقصيدة دعوة الى أن يكون الأنسان إنساناً نقياً نقاء سلمى بعيداً عن مسخ المدينة (حامد) الذي نجح النص في خلق الرفض والغضب لدى المتلقي لشخصية كمِثل
حامد.
عوداً على بدء إِن سردية هذا (النص) سبب من أسباب توهجه، فثمة شخصيات رسمت بدقة، وثمة مكان، وثمة نتف من حوار بلغة وصور يؤدي كل منهما تأثيره في مكانين مختلفين، ريف ومدينة وقد حلق الشاعر في أجوائهما فكان موفقاً التوفيق كله.