هل تغادر أميركا سريعاً؟

آراء 2024/01/21
...

 رزاق عداي 

علاقة العراق وأميركا بعد عام 2003 يمكن وصفها بأنها علاقة أبعد من كونها علاقة طبيعة، رغم ان العراق قد تخلص من واقع الاحتلال وبدت العلاقة بينهما متوازنة كأي علاقة بين بلدين ندين، أما ما يجعل هذه العلاقة تأخذ بعداً أعمق مما هو مألوف في العلاقات الدولية، فالنظام في العراق في تصميمه الاساسي وهندسته هو اميركي بامتياز، هذا على الاقل بالرؤية الاميركية، أما الجيران التي امتدت أصابعهم لاحقاً

فاميركا تقاتل بشراسة ضد من يسعى بهذا الاتجاه باعتبار ان العراق هو مرتكزها الجيوسياسي في منطقة الشرق الأوسط وهي من قدمت الكثير في سبيل اسقاط النظام السابق، حتى أنها (أي أميركا ) اليوم تعترض على اية توسعة للعلاقات بينه وبين دول كبرى أخرى كروسيا وفرنسا والصين وتحاول ان تتحكم في حجم التسوق التسليحي له مع بلدان أخرى، والاكثر من ذلك فالعراق اليوم محسوب من ضمن الأمن القومي الاميركي باللا وعي السياسي الاميركي، واذا كانت قد سحبت قواتها منه في عام 2011 في فترة حكم - أوباما -، فقد ربطته بموجب اتفاقيتن صارمتين مقيدتين، الاولى الاتفاقية الامنية والثانية وفق ما اطلق عليه باتفاقية الاطار الاستراتيجي التي وقع عليها رئيس وزراء العراق أسبق في عام 2008، والتي تضمنت الرعاية والاشراف على العراق على المدى البعيد.

الخطوة الحاسمة في تكريس الاحتلال الاميركي لأطول مدة هي في إضعاف القدرة العسكرية للعراق بعد 2003، فمن المعروف ان الجيش العراقي قد تأسس قبل ولادة الدولة العراقية عام 1921، وكان مسيّساً منذ البداية، فمعظم رؤساء الحكومات المتعاقبة والوزراء في العهد الملكي كانوا من العسكريين، ونتيجة لتسييس الضباط العسكريين لعب الجيش العراقي دوراً رئيساً في عدم الاستقرار السياسي، وفشل المشروع الديمقراطي، ومن هنا تولدت فكرة حل الجيش العراقي على يد الحاكم المدني (بول بريمر) بعد الاحتلال الاميركي للعراق، بدعوى ان الجيش العراقي هو جيش مسيّس ومؤدلج بالايديولوجية الفاشية للنظام السابق، لا يمكن الوثوق به والاطمئنان إليه في الحفاظ على أمن البلاد واستقراره  وضمان عدم الانقضاض على الحكومة المدنية الديمقراطية بعد سقوط النظام السابق، فبقاء الجيش القديم (بالرؤية الاميركية) يعني استمرار خطر الانقلابات العسكرية، كسيف معلق على رقبة الحكومة الديمقراطية، ولهذا كانت الاستراتجية الاميركية ترى من المنطقي ان العراق الجديد هو بحاجة ماسة إلى تغيير جذري لكل شيء، خاصة بناء قوات مسلحة جديدة ومتحررة من العقلية الانقلابية والسياسية والايديولوجية القديمة يتعهد فيها الضابط على احترام القيم الديمقراطية وحماية امن المواطن، والدفاع عن حدود الوطن من العدوان الخارجي، وعدم التدخل في السياسة مطلقاً، وان يكون وزير الدفاع مدنياً، وهذا لا يتم إلا بحل الجيش القديم، وبناء جيش جديد.

وتجدر الاشارة إلى ان تفكيك الجيش العراقي يعد أهم مرتكزات الاستراتيجية الاميركية في العراق بعد 2003، تلك الاستراتيجية التي تذرعت بضرورة انهاء اسلحة الدمار الشامل بموجب مجموعة من القرارات الدولية التي صدرت بعد عام 1991، فمصلحة اميركا كانت تكمن في ايجاد نظام سياسي في العراق يكون حليفاً لها، على ان يكون ضعيفاً، وان لا نزعة سيطرة اقليمية له، وان لا يهدد الامن والاستقرار في المنطقة.

وينبغي ان يفهم ان الاستراتيجية الاميركية في اية حقبة لا تتجزأ وفقاً لارادة اي رئيس اميركي جديد، اذ ربما تكون للرؤساء بصمة ما في بعض النواحي، الا ان الخروج عن الخطوط العامة لا يسمح له وذلك بمتابعة من المراكز والمؤسسات الكبيرة، فالعراق أصبح ضمن الاهتمام الاميركي في مرحلة ما بعد تفكك الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة، وعندما بدأت الماكنة الفكرية الاستراتيجية الاميركية بضخ كم هائل من المصطلحات والمفاهيم التي تخص ستراتيجيتها الجديدة والتي ازاحت النظام العالمي القديم الذي كان يسمى نظام القطبين نحو نظام القطب الواحد الذي تتزعمه وتقوده اميركا كقطب منفرد، وكانت الديمقراطية الاميركية هي واحدة من تخريجات الماكنة الفكرية الاميركية التي تناسب انتصار الليبرالية على الاشتراكية حسب المفهوم الاميركي، فكان أُريد تطبيق هذه الديمقراطية عملياً وفق عينة واقعية، فكان العراق حاضراً ومستوفياً لكل الشروط المرغوبة، وكانت الذريعة الجاهزة القديمة للاحتلال والتي استخدمتها كل الامبراطوريات الناهضة لاجتياح الدول الأخرى هي الرغبة في تحرير الشعوب منذ الاسكندر المقدوني ومروراً بنابليون والجنرال مود، أما اميركا فقد زادت عليها بالازمنة الحديثة بما اسمته بالدافع الأخلاقي الذي اطرت به قصف مدينتي هيروشيما وناكازاكي في نهاية الحرب العالمية الثانية، واجتياحاتها لكثير من دول شرق آسيا في خمسينات وستينات القرن الماضي.