أشخاص لا يستغنون عن الورق

بانوراما 2024/01/21
...

  كريس بارانوك

  ترجمة: مي اسماعيل

على الرغم من أن العالم يتحول الى التعامل الرقمي؛ لكن العديد من المتخصصين والصناعيين ما زالوا يعتمدون يوميا على الورق.. فمتى يقلب هؤلاء الصفحة الاخيرة ويتخلون عن الورق؟ 

يعد رسامو الهيدروغرافيا (hydrography = علم وصف المياه. المترجمة) البريطانيون منذ نحو أربعمئة سنة خرائط ورقية لبحار ومحيطات العالم؛ توثق كل واحدة منها تفاصيل السواحل والخلجان والمضايق والقنوات. تحفل وثائق من هذا النوع بالمعلومات؛ موضحة عمق البحر في مناطق متنوعة ومواقع الصخور والأماكن التي لا تستطيع السفن الرسو فيها. وهي وثائق يصفها “ستيفن باستابل” مدير الإنتاج بالمكتب الهيدروغرافي للمملكة المتحدة {UKHO} قائلا: {توفر الخرائط صورة غنية بشكل لا يصدق للبحارة، للسماح لهم بالقيام بعملهم}. 

كانت الخرائط البحرية مهمة جدا في الماضي حتى انها كانت تظهر في الصور الشخصية لكبار رجال البحر؛ ومنهم “جيمس كوك”. كذلك جرت طباعة بعض الخرائط الخاصة بكوك من قبل مكتب “UKHO”.

 

بحار على الخارطة

اليوم يجري الحفاظ على الخرائط البحرية وتحديثها بدقة متناهية، ويقوم كادر مكتب الهيدروغرافي للمملكة المتحدة بإجراء تصحيحات يومية أو تحسينات على نحو 3500 خارطة يحتفظ بها؛ مثل إضافة مواقع حطام السفن الجديد الذي يشكل خطورة، ومسارات الكابلات البحرية، او حتى التغيرات الحاصلة على الشواطئ. تنقل نشرة أسبوعية تلك التعديلات الى سفن الشحن في جميع أنحاء العالم، ويتعين على أفراد طواقمها إحضار أقلامهم واجراء تصحيح يدوي على أية نسخ ورقية للخرائط وقع عليها التغيير. لكن أواخر تلك التصحيحات اليدوية الاسبوعية باتت تلوح في الافق؛ إذ يخطط مكتب الهيدروغرافي للمملكة المتحدة للتخلي التدريجي عن خدمة خرائطه الورقية والتحول الى الإصدارات الرقمية فقط، والتي يمكن الوصول إليها عبر أنظمة عرض المخططات الإلكترونية على متن السفن. سبق لهذا المكتب أن خطط لتنفيذ التحول الى الخدمة الرقمية عام 2026؛ لكنه ألغى ذلك الموعد مؤخرا. وعن ذلك يقول باستابل: “بدا لنا واضحا وجود مشكلة، واننا اذا سارعنا في الأمر فسيكون هناك خطر حقيقي للغاية من أن نترك البحارة وراءنا؛ وهذا ببساطة ليس أمرا نحن مستعدون للقيام به”. 

من المرجح أن تُنهي عملية التحول الى الخدمة الرقمية تقاليد انتاج الخرائط البحرية الورقية بأي صيغة.. كانت تلك الخرائط تُرسم سابقا باليد حتى ظهور آلات الطباعة، ولاحقا تولت برامجيات الحاسوب تلك المهمة. خلال العام الماضي أوقف مكتب الهيدروغرافي للمملكة المتحدة خدمة طباعة الخرائط الورقية الخاصة بها؛ لذا فان الخرائط “الورقية” التي ينتجها اليوم هي فعليا ملفات رقمية تجري طباعتها من قبل العملاء. 

تبين ان العديد من السفن ما زالت تحتاج الى الخرائط الورقية؛ فوفقا للوائح البحرية يجب أن تحمل السفن نوعا من أنواع الخرائط والجداول رغم توافر النسخ الرقمية (التي لا يتوجب تحديثها يدويا كل اسبوع)؛ لذا تبقى الخرائط الورقية قيد الاستعمال من باب الاحتياط؛ أو تكون (في بعض الاحوال) المصدر الوحيد للمعلومات على متن السفينة. كذلك أعلنت “الجمعية الملكية لليخوت” انه برغم سحب خرائط المكتب الورقية فان الجمعية ستواصل تعليم تقنيات الملاحة وفق تلك الخرائط.. وهكذا يبدو ان الورق ما زال يحكم الأمواج.. وهذا ليس كل شيء.. 


الاحساس بملمس الورق

وفق التقليد الذي يبلغ عمره نحو ألفي سنة لا يزال الورق الحقيقي المصنوع  من الأشجار يُعتبر أمرا بالغ الأهمية لأعمال وأنظمة حكومية لا حصر لها حول العالم؛ برغم التأثير الذي تتركه عملية انتاجه على البيئة. ولعقود مضت قدمت الحواسيب والهواتف الذكية والأجهزة اللوحية بديلا للورق؛ إذ يمكن الكتابة على شاشاتها المضيئة والمسح بمجرد لمس الأزرار أو الشاشة. لكن الاحساس بالورقة البيضاء حين تحملها اليد، أو كيفية تسرب الحبر من القلم إلى سطح الورق لا يشبهه شيء أبداً.. لكن استخدام الورق الكرافيكي؛ أي- الورق المستخدم أساسا لنقل المعلومات المطبوعة؛ كان في انخفاض واضح منذ سنوات. ويقول باستابل إن مبيعات المخططات الورقية للمكتب وصلت إلى 17 بالمئة فقط مما كانت عليه قبل عقد من الزمن، وتبلغ اليوم نحو 16 بالمئة من مبيعات المكتب. لكن الورق سلعة عنيدة بالفعل، ومن الصعب جدا ان تعمل أي مؤسسة بدون الورق تماما. وإذ يكون الأمر احيانا متعلقا بالعادات التي يعتمدها العاملون؛ لكن في بعض الحالات توجد أسباب قوية للتمسك بالورق؛ بما في ذلك الجماليات والوظيفية، وحتى الأمان.. ومن الصعب بشكل غريب التخلي عن الورق. 

تُقدم “ايرين سميث” أفلاما على يوتيوب عن كيفية صناعة المفكرات الشخصية يدويا، وتُركز على نوعية الورق الجيد المتوافقة مع الالوان المائية او الاحبار المتنوعة. وهو مثال واحد على الاستخدامات الخاصة للورق التي ظهرت في عالم مليء بالبدائل الرقمية. عموما يبلغ وزن الورق الافضل لصناعة المفكرات نحو 160 غراما لكل متر مربع؛ وهو ضعف سُمك الورق المستخدم في طابعات المكاتب الاعتيادية. ترى سميث أنه إضافة لكونها تجربة ممتعة ومفيدة؛ توجد فائدة حقيقية عند اختيار الورق لمهام مثل هذه؛ قائلة: “حين أكتب التواريخ في تلك المفكرة الورقية، لا احتاج لتذكير نفسي بها مجددا كما افعل مع التقويم في الحاسبة”. 


مكاسب ذهنيَّة

يمكن تأكيد تجربة سميث لاستخدام المفكرة الورقية مقارنة بالتقويم الحاسوبي؛ إذ أظهرت دراسة نُشرت عام 2021 تزايد النشاط الدماغي لتذكُّر المعلومات عندما تُكتب يدويا على الورق مقارنة بخزنها رقميا على الحاسوب أو الهاتف. استندت الدراسة على تجارب شملت مجموعة صغيرة من الطلبة والخريجين الجدد من اليابان؛ رغم ان الباحثون لم يستكشفوا التأثير الأوسع أو الأطول المدى الذي قد يحدثه هذا النشاط الدماغي الإضافي على التعلم. يؤكد “ريتشارد هاربر” (خبير التفاعل بين الانسان والحاسوب بجامعة لانكستر) وجود فارق كبير بين المعلومات المُقدمة على الورق وتلك المقدمة على شاشة. نشر هاربر (مع “آبيغيل سيلين” عالمة معرفية وكومبيوتر تعمل الآن في شركة مايكروسوفت) عام 2002 كتاب: “خرافة المكتب الخالي من الورق” عن سبب بقاء الورق حيويا للغاية للعديد من منظمات الأعمال، قائلا: “يستوعب العقل بشكل أفضل الجدليات المعقدة والعميقة التي تمتد عبر عدة صفحات من الورق”، موضحا ان وضع القضايا الدقيقة المفصلة التي يود المرء طرحها على الورق فكرة جيدة. 

لكن الاعتماد المستمر على الورق لا يتعلق بالضرورة بالتقدير الحقيقي لمزايا الورق؛ إذ تخطط الكثير من المؤسسات (شأنها شأن مكتب الهيدروغرافي للمملكة المتحدة) التحول إلى التكنولوجيا الرقمية إلى حد كبير أو حصريا؛ لكنها تواجه عقبات. من المقرر ان يصبح عمل الحكومة الاميركية بدون ورق، لكن الامر يستغرق أطول مما كان متوقعا. إذ كشفت “إدارة المحفوظات والسجلات الوطنية” العام الماضي ان نحو ثلث مؤسسات الحكومة الفيدرالية واسعة الانتشار لم تعتمد بعد السجلات الإلكترونية، واضطرت الإدارة إلى تمديد الموعد النهائي للتحول لمدة 18 شهرا، حتى 30 حزيران المقبل. كذلك يلعب الورق دورا في قطاعات حكومية أكثر سرية؛ ففي المملكة المتحدة على سبيل المثال يحتفظ مقر الاتصالات الحكومية “GCHQ” بآلاف الملفات الورقية السرية عن موظفيه في خزانة داخل قبو مبناه، بينما تنشر ادارة الأمن “MI5” على موقعها في الإنترنت: “تظل الملفات الورقية مهمة بالنسبة إلى MI5”. كما عادت “خدمة الحرس الفيدرالي الروسي- FSO” المسؤولة عن الأمن في الكرملين، إلى استخدام الآلات الكاتبة في العام 2013؛ لمنع التجسس على أجهزة الكومبيوتر. 

وبشكل منفصل اعتمدت صناعة الخدمات اللوجستية منذ فترة طويلة على المستمسكات الورقية لتوثيق عبور البضائع؛ مما أدى إلى وجود ملفات ورقية ضخمة ومعالجات غير فعالة أحيانا. ورغم ان هذا قيد التغيير؛ فمن المفهوم بوضوح صعوبة التخلص من السجلات الورقية في ذلك القطاع، كما يؤكد العاملون فيه.  

دعمٌ احتياطيٌّ للحواسيب

لصناعة الرعاية الصحية اعتماد تاريخي على الورق أيضا؛ من سجلات توثيق المستشفيات الى الوصفات الطبية؛ وهو أمر امتد حتى القرن الحادي والعشرين. هناك أحد عشر دولة في الاتحاد الأوروبي ما زالت تعتمد الوصفات الطبية الورقية بدل الأنظمة الرقمية. وفي الولايات المتحدة ما زال الورق يحافظ على وجوده العنيد ضمن بعض أنظمة الرعاية الصحية رغم محاولات التحديث؛ إذ تبين ان نحو 96 بالمئة من المستشفيات و78 بالمئة من الاطباء يستخدمون السجلات الطبية الالكترونية خلال العام 2021. 

ما زال الورق يعتبر وسيلة الدعم الاحتياطي عندما تفشل الأنظمة الإلكترونية؛ وهي تفشل بطبيعة الحال! وحينها تلجأ الادارات الى النسخ الورقية والآلات الطابعة حين تتوقف الحواسيب. حتى “ويكبيديا” (وهي مصدر معلومات ضخم عبر الإنترنت، يجري تحديثه وتحريره باستمرار بواسطة أشخاص من جميع أنحاء العالم)  لديها خطة طوارئ ساخرة تسمى “سياسة إدارة الأحداث الكارثية”. تقترح ويكبيديا في تلك الخطة انه في حالة وقوع تحولات المروعة المحتملة للأحداث مستقبلا؛ مثل “الانهيار المجتمعي الوشيك” أو “حدث وشيك على مستوى الانقراض” سيجري (افتراضا) تكليف أولئك الملايين من المحررين بطباعة صفحات متنوعة من الموسوعة الإلكترونية لمصلحة لأجيال القادمة.

إنها مقاربة ساخرة لكنها فكرة تطرح كثيرا للنقاش؛ لأن الورق في نهاية المطاف يُعتبر الاكثر جدارة بالاعتماد عليه. ومن جهة أخرى، تسارعت معدلات انخفاض استخدام الورق بفعل جائحة كورونا؛ كما يقول “أوسكار لينجكفيست”، المدير الدولي لمنتجات الورق والغابات بشركة ماكينزي للاستشارات الإدارية: “لم يكن أسوأ السيناريوات التي تخيلناها بالسوء الذي وقع فعلا للسوق”. لكنه اضاف ان معدل الانخفاض تباطأ الآن ولعله سيعود الى نحو خمسة بالمئة سنوياعلى مستوى العالم. 

تناقص بكثير عدد المجلات والصحف الورقية التي تجري طباعتها اليوم عما كانت عليه قبل عقد أو عقدين؛ ولعل هذا عامل رئيسي. أدت خطط العمل من المنزل ومساعي الاستدامة للتقليل من استخدام الورق. لكن ابحاث شركة ماكينزي كشفت ازدهار استخدامات الورق لغير أغراض الطباعة؛ مثل التغليف والشحن. وان تلك الاستخدامات تضاعفت تقريبا في أوروبا على امتدا السنوات الأولى من الألفية وحتى العام 2020؛ أي من العام 2000 وصولا إلى العام 2020 الذي انتشرت فيها جائحة كورونا على سطح المعمورة، بينما ازدادت بأربعة أضعاف في الصين خلال الفترة نفسها. ويعد ازدهار التسوق عبر الإنترنت المرتبط بعمليات الإغلاق بسبب فيروس كورونا أحد الأسباب. ولو وسعنا مفهوم “الورق” ليعني كافة المنتجات؛ من المفكرات الفاخرة الى تغليف شحن بضائع شركة “أمازون”؛ سيبدو واضحا ان تلك المادة أصبحت أكثر شيوعا من اي وقتٍ مضى..  


بي بي سي البريطانية {المستقبل}