حينَ يكونُ الموتُ احتجاجاً

منصة 2024/01/22
...

 ميادة سفر
يرى الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه أنّ الموت نوعان: طبيعي وهو الظاهرة الطبيعيَّة التي لا مفرَّ منها ولا حيلة للمرء في دفعها، ثم موت "إرادي" وهو الانتحار ويدعو إليه على لسان زارادشت "مت في الوقت المناسب"، ويبدو أنَّ عدداً من الأدباء والمفكرين أرادوا أن يموتوا في الوقت المناسب لهم، وقرروا الانتحار لكلِّ أسبابه ودوافعه التي رآها جديرة بأن تؤخذ بالاعتبار طالما لم تعد الحياة جديرة بالاستمرار، ومنهم الكاتب النمساوي ستيفان زفايغ.
في ليلة 22 شباط فبراير عام 1942 يخط ستيفان زفايغ بضع كلمات كرسالة وداع: "قبل أن أغادر هذه الحياة بمحض إرادتي وبكامل قواي العقليَّة والنقليَّة، بعد ستين سنة من العمر أعتقد أنّه من الأفضل أن أضع حدّاً لحياتي، ورأسي عالية مرفوعة، أخيراً أحيي جميع أصدقائي وأرجو لهم أن يلمحوا أول خيوط الفجر بعد كل هذا الليل المدلهم الطويل، أما أنا فقد نفد صبري، ولذلك قررت أن أرحل قبلهم"، بهذه الكلمات ختم زفايغ حياته وتجرّع السم ليستيقظ العالم على خبر وفاته بعد أن ضاقت به الأحوال التي تعصف بالعالم، ولم يعد قادراً على تحمل المزيد من رؤية وسماع أخبار الحرب والقتل والدمار.
كان واحداً من أبرز أدباء القرن العشرين، وما زالت كتبه تحظى بالكثير من الاهتمام من قبل القرّاء المفتونين بأدبه، سواء قصصه التي لامست النفس البشريَّة ونالت إعجاب عالم النفس الشهير سيغموند فرويد، أو تلك السير الذاتية التي وثق بها حياة العديد من الشخصيات الأدبيَّة البارزة، وإن أثير الجدل الكبير بين النقاد بشأن انتاجه الأدبي بين معجب ومنتقد، إلا أنّه ما زال واحداً من أكثر الكتاب شهرة في العالم، وقد كان لانتحاره وقع الصاعقة على قرائه وأصدقائه، منهم من لامه على ما قام به، ومنهم من كان متوقعاً تلك النهاية بسبب الحالة النفسيَّة التي كان يعاني منها آخر أيامه، فهل كان انتحاره ردّاً على شعوره بالذنب لفراره من المواجهة والنجاة بنفسه؟، هل كان أنانيَّاً في موته؟، كما وصفه الكاتب الألماني توماس مان، بأنّه "كان أنانيّاً، لم يفكر لحظة انتحاره إلا بنفسه"، وأنه "منح النازيين بموته لذة الانتصار"، أسئلة كثيرة ستبقى الإجابة عنها غير ذات جدوى الآن. ولد ستيفان زفايغ في 28 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1881 في "إمبراطورية كبيرة شديدة البأس" كما وصفها في مقدمة كتابه "عالم الأمس"، درس الأدب الألماني والفلسفة، جاب العالم وتعرف إلى الكثير من الأدباء والكتاب، آمن بأوروبا موحدة وهو الذي شهد صعود الاشتراكية القومية، ووقف في وجه النازية، وكان لافتاً موقفه من اليهود ورفضه إقامة وطن قومي لهم على الرغم من انتمائه إلى الديانة اليهودية حيث يصف نفسه بأنّه "يهودي بالمصادفة"، مع ذلك لم تنجُ كتبه وأدرجت ضمن الكتب الممنوعة وتقرّر حرقها عام 1933.
عاش ستيفان زفايغ حياة حافلة بالإنجازات وترك آثاراً خالدة إلى يومنا هذا، وكان إنتاجه الأدبي غزيراً، إلا أنّ الباحث في سيرته سيجد أنه لم يكن راضياً عمّا يجري حوله، وهو الذي كتب "لا يكون عاش الحياة حقاً إلا من شهد الإشراق والظلمة، والحرب والسلام، والارتقاء والانحطاط"، ويبدو أنّ زفايغ لم يشهد السلام الذي يرجوه ولا الارتقاء الذي يأمله، فكان أن وضع حدّاً لحياته، تاركاً لأجيال لاحقة فيضاً من المؤلفات والنوفيلا وسير الكبار أولئك الذين أسماهم "بناة العالم" وكان واحداً منهم بلا شك.