بعد 25 سنة من الخلاص من العنصريًّة
بانوراما
2019/05/21
+A
-A
كريستا ماهر ترجمة: بهاء سلمان
الوقت هو التاسعة والنصف صباحا، ويقف حشد من المتفرجين على طول طريق الدكتور "جاكوب زوما" في ماخاندا، بلدة صغيرة تقع جنوبي جنوب أفريقيا، واضعين قمصانهم على أنوفهم، حيث كانوا يشاهدون رجل إطفاء يزيح أكواما من البراز البشري من تقاطع الطرق، بعد أن أفرغ سكان غاضبون دلاء المراحيض خاصتهم على الطريق مع توقع مرور موكب رئيس الجمهورية "سيريل رامافوسا" بوقت لاحق من ذلك الصباح.
كان اليوم 27 نيسان الماضي، وهو يوم الحرية في جنوب افريقيا، ويحمل الذكرى السنوية الخامسة والعشرين لإجراء أول انتخابات حرة ومتعددة الأعراق داخل البلاد؛ وكان أيضا قبل أقل من اسبوعين على ذهاب ملايين الناس الى مراكز الإقتراع بانتخابات وطنية تجرى يوم الثامن من آيار، مع جولة لرامافوسا عبر البلاد كي يعزز فكرة أن حزبه الحاكم، المؤتمر الوطني الافريقي، الذي ناضل من أجل إنهاء حالة التفرقة العنصرية وتسلم زمام السلطة بلا توقف منذ ذلك الحين، لا يزال يستحق التصويت لصالحه.
خدمات متدنية
"عندما تقترب الانتخابات، يقوم السياسيون بإطلاق الوعود كافة،" كما يقول "سايدا سيتو"، 30 عاما، مع مشاركته لبعض سكان المنطقة بغناء يعبّر عن احتجاجهم بجانب إطار مشتعل. ولا ينفرد أناس هذا الجزء من ماخاندا باستمرار استخدامهم لنظام غير صحي ومذل لدلاء المراحيض، فالقمامة متكدّسة بالأكوام، والطرق مليئة بالحفر، ومياه المدينة قذرة، وهي خدمات فشلت البلدية، ومن ورائها الحزب الحاكم، في تقديمها للمواطنين.
ويعتقد الكثيرون أن ماخاندا بلدة رائعة وأنيقة بطراز يعود للقرون الوسطى، وهي تحتضن جامعة رودس المرموقة، وبعضا من أرقى المدارس الخاصة بالبلاد والمهرجان الوطني للفنون. لكن ليس الكل لديهم مثل هذه الذاكرة اللطيفة، فالمحلّيون السود عاشوا بظروف فقر مذلّة وتفرقة عنصرية خلال عهد العزل العنصري، كما كان الحال في كل مكان. اليوم، لا يزال العديد من السكان يعيشون بحالة من الفقر المدقع.
لكن يبدو أن الجميع متفقون على أمر واحد: تدهورت أوضاع المدينة بسرعة. ويعكس انحدار ماخاندا التحديات المتزايدة لربع قرن من الزمان لديمقراطية جنوب افريقيا الغضّة، فالبطالة متفشية، والفجوة بين الأثرياء والفقراء واسعة للغاية، كما أن عجز الحكومة عن توفير الخدمات الأساسية بشكل حقيقي، مثل الماء والصرف الصحي والإسكان، تؤثر بشكل غير متناسب على الطبقة الأشد
فقرا.
ويقول "ريتشارد غايبا"، منسق منتدى الأعمال التجارية للمدينة: "ماخاندا عبارة عن جنوب افريقيا مصغرة، فنحن لدينا مشاكل كبرى في كل مكان." وتحسّنت حياة ملايين المواطنين بشكل جذري خلال هذه الـ25 سنة منذ أن صار نيلسون مانديلا أول رئيس منّتخب للبلاد، منهيا حقبة طويلة من دولة راعية للتفرقة العنصرية والقهر الاجتماعي، وصار السود مواطنين في بلدهم. وتلقّت ملايين العوائل إسكانا حكوميا ومنحا للرعاية الاجتماعية وتعليما مجانيا، وانخفضت معدلات جرائم القتل الى النصف تقريبا.
خطابات رنانة
"يجب علينا التفكير مليا بالمدى الذي قطعناه لغاية الآن،" قال راماسوفا أثناء كلمته بيوم الحرية التي ألقاها على بعد ميلين من الطريق الذي أفرغ فيه المحتجون قذارتهم، وأضاف: "فقد كانت هذه الغالبية تعيش سابقا حياة القهر، واليوم جميع المواطنين يتمتّعون بحقوق متساوية قانونا. لكن العديد من أبناء شعبنا لا يزالون يعيشون بحال الفقر، والكثير جدا بلا عمل، والكثير جدا بلا منازل تؤيهم، وغيرهم الكثير لا يملكون ضروريات الحياة ... لا يمكننا أن نكون أمة لشعب حر مع بقاء الكثيرين جدا بحالة عوز."
يتفق الكثيرون مع هذا الرأي، فبرغم المكاسب الهائلة، يظن غالبية المواطنين بسير البلاد بالاتجاه الخاطئ، بحسب استبيان أجرته وكالة متخصصة.
يعود السبب بشكل كبير لفترة حكم الرئيس السابق جاكوب زوما، الذي تميّزت سنوات حكمه التسعة بفضائح متواصلة وفساد حكومي لا يزال أثرها العميق واضحا للعيان. وقد انخفضت شعبية حزب المؤتمر الوطني الافريقي في ظل زوما، وشهد الحزب أسوأ أداء انتخابي له على الاطلاق في الانتخابات البلدية سنة 2016، خسر خلالها المدن الرئيسة مثل بريتوريا وجوهانسبيرغ. وفي شباط 2018، أجبر الحزب زوما على التنحي، ليتسلم راماسوفا مكانه، متعهدا باستئصال الفساد واعادة البلاد الى المسار الصحيح. وفي إحصائية أخيرة، لايزال حزب مانديلا يتمتع بغالبية وطنية مريحة، محققا فوزا ساحقا بنسبة 62,1 بالمئة من الأصوات بانتخابات 2014 الرئاسية، مقارنة مع التحالف الديمقراطي الليبرالي، الجهة المعارضة الأكبر، التي فازت بنسبة 22,2 بالمئة من الأصوات، بينما حقق حزب مقاتلو الحرية الاقتصادية اليساري الراديكالي نسبة 6,3 بالمئة فقط. وستكون هناك خيبة أمل كبرى من ناحية الدعم الوطني للحزب الحاكم إذا ما نزلت الأصوات عن نسبة الخمسين بالمئة لأول مرة، لترغم الحزب على ما يحتمل أن يكون تحالفا غير مستقر.
مؤيدون مترددون
في يوم الحرية، وبجلوسهم ضمن صفوف لكراسي بلاستيكية داخل ملعب المدينة لكرة القدم تحت سرادق ضخمة، قفز مناصرو الحزب الحاكم على أقدامهم لتحيّة الرئيس أثناء سيره الى المنصة لإلقاء كلمته، هاتفين بإسمه "راما راما راما".
"لنديكا أبريل"، 27 عاما، المتخصصة بتنمية الطفولة المبكرة، والمرتدية قميص الحزب والمتوشحة بعلمه حول كتفيها، قادت سيارتها ساعتين للوصول الى احتفالية يوم الحرية ورؤية الرئيس، مدفوعة باعتقاد مفاده أنها مدينة بالولاء للحزب لأن والديها كافحا بضراوة ضمن صفوفه لتحقيق الديمقراطية للبلاد: "هناك فسحة للتقدم، لكن علينا أخذ الأمور تدريجيا، فهم لا يزالون يؤدون عملا جيدا."
الآخرون ليسوا متيقنين تماما، فقد قال رجل يقف خلف السرادق، يعمل مساعد ممرض في أحد مستشفيات المدينة الحكومية، ورفض ذكر اسمه لنا: "منذ سنة 1994، كانت تطلق لنا وعود بتحسن أحوال معيشتنا، ونفس الشيء تكرر سنة 2004 وسنة 2009، والآن يتكرر في 2019." وأشار إلى أنه يدلي بصوته دائما لصالح حزب المؤتمر الوطني الأفريقي. "أنا حاليا لست متأكدا من إعطاء صوتي للحزب، فلدي حزن عميق."
وخلال جولة بالسيارة عبر أحياء ماخاندا الهضبية، ليس من الصعب معرفة الأسباب التي أوصلت السكان لحالة السأم، فالمطبات والحفر تنتشر في الطرق الممتدة عبر جهتي البلدة وفي تجمعاتها السكنية الفقيرة، وحتى بعد تنظيف وترتيب الشوارع تحسّبا للزيارة الرئاسية، لاتزال أكوام القمامة منتشرة حول البلدة. ولم يتم إدامة وتوسيع البنية التحتية للمجاري للإيفاء بما تتطلبه حالة ارتفاع أعداد السكان، كما يقول الخبراء. وتتدفق مياه المجاري الثقيلة على نحو واسع في بعض الممرات المائية للبلدة، وتغمر أحيانا حتى بعض المنازل. يقول "ماثيو ويفر"، الباحث في معهد بحوث المياه التابع لجامعة رودس: "تعمل وحدات معالجة المياه بطاقتها القصوى، وهي على حافة الانهيار، وهي حاليا تشبه القنبلة الموقوتة."
أزمات مستعصية
وعلى رأس جميع المشاكل، تقع المنطقة برمتها ضمن قبضة جفاف هائل مدمر، مع معاناة السدود المزوّدة لجزء من احتياجات البلدة بالماء من شح كبير، ويجاهد معمل معالجة المياه لأجل تنقية ما يكفي من الماء لتلبية طلب السكان. ويشتكي قاطنو البلدة كافة من كون الماء الذي يحصلون عليه يبدو غير نقيا، وأحيانا يجعلهم يشعرون بالمرض. وتعمل منظمة "هبة المانحين"، التي تحفر آبارا مائية ضمن ضواحي البلدة، على استخراج ومعالجة المياه حاليا بجهودها الذاتية، وتقوم بتوزيعه لأماكن محددة حول البلدة ست أو سبع مرات يوميا، بحسب منسقي العمل في المنظمة.
من الصعب تحديد الأحوال بدقة، بشكل مستقل، حينما تصير الأمور غاية في السوء، بحسب ساكن البلدة القديم "رون فيزنبيرغ"، الذي يعمل منسقا لمجموعة محلية تدعى "ماكانا ريفايف"، التي تصلّح الحفر وترفع القمامة وتستبدل المصابيح المعطّلة في شوارع البلدة،حيث يقول: "إنه تدهّور بطيء وتدريجي." ويؤكد فيزنبيرغ ومنتقدون آخرون ان الإدارة المالية للبلدة والفساد والمخالفات المرتكبة في منح العطاءات لعقود العمل أسهمت جميعها بالمشاكل القائمة حاليا. في شباط الماضي، قامت منظمة "حركة الناس العاطلين"، وهي مجموعة محلية أخرى تتخذ من ماخاندا مقرا لها، قامت بتقديم اقتراح للمحكمة العليا للمقاطعة بحل المجلس البلدي لإخفاقه بتوفير الخدمات وبيئة صحية آمنة لعيش السكان، ولاتزال القضية أمام أنظار المحكمة حتى الآن . وتقول "أياندا كوتا"، قائد المجموعة: "لقد غرقت بلدية ماخاندا في حفرة معتمة، والمشكلة لا تنحصر في فرد واحد، بل هي تكمن في الثقافة التي تسيّر البلدية، ثقافة المحسوبية والفساد والجشع."
تدهور الشعبية
حزب المؤتمر الوطني الافريقي ليس جاهلا بالمشكلة، فقد تهاوى الدعم الذي حظي به الحزب محليا خلال السنين الأخيرة، من حيازته لأكثر من 73 بالمئة من الأصوات سنة 2011 في الانتخابات المحلية، إلى أقل من 63 بالمئة سنة 2016، بينما كسب حزب التحالف الديمقراطي المعارض قاعدة أكبر.
وفي كانون الأول الماضي، عيّن الحزب عمدة جديد للبلدة للتغلب على المشكلة، والذي كان، بالمصادفة، أول عمدة أسود البشرة للبلدة بعد انتخابات سنة 1994 التأريخية.
يقول العمدة "مزوكيسي مباهلوا": "ستكون كذبة كبرى إذا قلنا أن البلدة ليست في حال سيئة. هناك الكثير من الشعور بالأسى، أو على أقل تقدير بعدم الثقة بين السكان حيال الخدمات الضعيفة التي يتلقونها. الذي أسعى لتحقيقه بالوقت القادم هو استعادة تلك الثقة، كي نتمكن معاً من تصنيف الأشياء وتبويبها."
ويشير العمدة الى أن صلب المشكلة هو عدم قدرة البلدة على جمع ما يكفي من واردات مالية لدفع الأموال التي تدين بها الى الوكالات المجهزة للخدمات، مثل شركة الكهرباء الوطنية ومؤسسة المياه، والبلدة مديونة ما يقرب 11من مليون دولار، وهذا معناه عدم وجود ما يكفي من أموال لتصليح أشياء ضرورية، مثل الطرق المحفرة والأنابيب القديمة المستهلكة.
حتى إذا وضع جزء من اللوم على السكان لعدم دفعهم الضرائب وفواتير الماء، يتفق العمدة مع المنتقدين على أن المراقبة المتراخية للشؤون المالية للبلدة فيما سبق مسؤولة على أقل تقدير لجزء من ظروف الوضع الراهن: "إن لم تكن تمتلك وسائل الحكم السليم، فستكون مقيّدا بخسارة المال جراء سوء التصرّف من قبل الملاكات العاملة وأي أفراد آخرين. ينبغي علينا تغيير تلك الثقافة، وينبغي وضع الأمور تحت السيطرة."
عدم إتفاق
إنه نمط من إسلوب مميّز ذلك الذي قدمه الرئيس رامافوسا الى الحزب الحاكم خلال السنة الماضية، وإذا ما انتصر الحزب مرة أخرى هذه السنة، فلربما سيمنح ذلك له بعض الإشارات المشجعة للطريقة التي يحتمل أن تعمل بها حكومة الحزب المقبلة. غير أن راماسوفا سيكون بحاجة الى ولاية ثابتة، فمع التقدّم الصعب الذي يخوضه الرئيس تجاه محاولة التعمّق بتطهير الحزب بعد خروج زوما، تتزايد في الوقت نفسه التوترات بين مناصري الزعيمين، مثيرة مخاوف من أنه مع أفضل النوايا، ربما ستتعرض جهود راماسوفا الإصلاحية الى التقويض إذا فاز الحزب بغالبية بسيطة.
في مناطق مثل ماخاندا، ربما تكون مساعي الحزب لإقناع الناخبين بتمركزها وسط أفكار التجديد متأخرة للغاية، حتى للمؤيدين القدامى. ووسط مجمع سكني بني أواخر تسعينيات القرن الماضي للمحدودي الدخل، تنظر "نتومبيزونك ماغوج"، 58 عاما، الى مياه المجاري الطافحة التي تتسرّب الى داخل فناء منزلها منذ السنة الماضية، عندما تعرّض أحد الأنابيب في الحي للكسر، ولم تتحرك البلدية لتصليحه حتى الآن.
وعندما يدفع الجيران مياه صرفهم الصحي، تنساب المياه الثقيلة من الأرض الى غرف النوم، تاركة آثار المياه على الجدران. وتقوم العائلة بمسح الفضلات الصلبة وإلقائها على قارعة الطريق، وجميع من في المنزل تمرّض منذ بداية هذه الحالة، وبضمنهم طفل صغير بعمر خمس سنين. تقول ماغوج، وهي تشير الى مياه المجاري التي تملأ منزلها: "إعتدت على التصويت لصالح المؤتمر الوطني الافريقي، لكن الآن! كيف يمكننا التصويت في مثل هذه
الظروف؟".