حادثة تشاوتشيلا وتبعاتها على عالم الطفولة

بانوراما 2024/01/25
...

 جيري فيزواناثان

 ترجمة: بهاء سلمان

ذات ظهيرة يوم مشمس من أيام شهر تموز سنة 1976، اختفى 26 طفلا وسائق حافلتهم، أثناء سيرهم على طريق العودة إلى المنزل من المدرسة في منطقة تشاوتشيلا ضمن ولاية كاليفورلانيا الواقعة جنوب غرب الولايات المتحدة الأميركية، وهي بلدة ريفية تقطنها خمسة آلاف نسمة تقع ضمن وادي سان هواكين.

بعد مرور بضع ساعات من الاختفاء عثر رجال الشرطة على الحافلة، متروكة داخل أحد الخنادق، أدركوا وجود أمر طارئ ما؛ فعند الساعة الثالثة و54 دقيقة بعد الظهر، قام ثلاثة رجال مسلحون، يخفون وجوههم بجوارب طويلة، بالاستيلاء على الحافلة وسط الطريق الخالي، واحتجزوا الأطفال وسائقهم "إد راي"، كرهائن. ليتم بعد ذلك فصل المخطوفين، ووضعهم في شاحنتي نقل صغيرتين، والسير بهم لمدة نحو 11 ساعة إلى مقلع مهجور للحجر يقع على بعد مئة ميل من مكان الحادث.

وفي ذلك المكان، دفع المختطفون السائق والأطفال إلى داخل مقطورة مدفونة عميقا تحت الأرض. وتركوا الرهائن وسط العتمة مع بعض الأغطية والفرش بعد أن أهالوا عليهم أكوام التراب من الأعلى، فأمسى الأطفال والسائق راي محبوسين داخل سجن مؤقت تحت الأرض. وكان الخاطفون قد خططوا لمقايضة الأطفال المخطوفين بفدية قدرها خمسة ملايين دولار، إذ إن جميعهم بأعمار تتراوح من خمس إلى 14 سنة.


هروبٌ ناجح

لكن بعد 16 ساعة من حشرهم داخل تلك المقطورة، تمكّن راي واثنان من الأطفال الأكبر عمرا من إحداث فتحة في السقف ومساعدة بقية الأطفال الآخرين على الخروج منها زحفا. وتمكنت الشرطة من الوصول إليهم ونقلهم إلى أحد اماكن الاحتجاز القريبة لغرض فحصهم والتأكد من سلامتهم، حيث تأكّد الخبراء الطبيون من سلامة وضع الجميع، باستثناء كون الأطفال مرعوبين قليلا، بحسب وصف سريع للأطباء الذي قاموا بفحصهم، ما عدا وجود بعض الكدمات التي تسبب بها الحادث ومشاكل بسيطة للمسالك البولية، لأنهم اضطروا لحبس إدرارهم، ومع ذلك كله فقد تمكن الجميع من النجاة بلا إصابات.

في ذلك الوقت، كانت حالة اختطاف تشاوتشيلا تمثل ضجة إخبارية إعلامية، مع إدعاءات كثيرة لعناوين الصحف بأن الأطفال يتمتعون بصحة جيّدة بعد نجاتهم من هذا الحادث. القليل من المختصين فكّروا في دراسة ما فعله تأثير حالة الاختطاف على الصحة العقلية للأطفال، وكان هناك اهتمام بسيط بإحتمالات كيفية تأثيراتها عليهم إلى حين وصولهم مرحلة النضوج العمري. وقبل هذا كله، كانت مجالات بحوث الطب النفسي لصدمات الأطفال لا تزال في مهدها بين يدي الباحثين. اعتقد معظم الخبراء أن الأطفال كانوا مرنين إلى درجة لا متناهية، وإنّهم قد "تجاوزوا" الحوادث المثيرة للصدمة على نحو معتاد. ولم يكن التشخيص السريري لما يعرف باضطراب الضغط النفسي لما بعد الصدمة، حتى للمحاربين، موجودا بعد. "كانت هناك أمنية بأن الأطفال سيتعافون، وينسون ما حصل ويمضون في حياتهم وكأن شيئا لم يقع" بحسب وصف الدكتور "سبنسر إيث"، رئيس الصحة العقلية لنظام الرعاية الصحية لمدينة ميامي، الذي كان قد إطلع على حادثة تشاوتشيلا لاحقا. غير أن احد الأطباء قرر التمعّن بالأمر عن كثب.

جهودٌ كبيرة

بعد حادثة الاختطاف، أخذت إحدى منظمات لوس انجليس الأطفال إلى مدينة ألعاب والت ديزني في محاولة منها لمساعدتهم على التعافي، ولم تقدم المنطقة التعليمية إلا القليل كوسائل للعلاج أو النصيحة؛ وتكهّن أحد خبراء الصحة العقلية أن طفلا واحدا فقط من المخطوفين البالغ عددهم 26 سيتأثر ويتضرر نفسيا جراء حالة الاختطاف.

غير أن الدكتورة "لينور تير" التي وصلت إلى تشاوتشيلا بعد خمسة أشهر من حادثة الاختطاف وجدت بأن التكهّنات كانت خاطئة تماما؛ إذ إن الآباء كانوا مرعوبين لأنهم، وبعد مرور تلك الشهور من الحادث، لا يزالون يسمعون نوبات صراخ أولادهم أثناء نومهم. تقول الدكتورة لينور: "لم يرغب أي أب بالإقرار بأن ابنه متضرر نفسيا؛ لكن مع وصولي إلى تشاوتشيلا، كان الجميع لديهم مشكلات نفسية."

ومع كونها طبيبة نفسية للأطفال تحت التدريب آنذاك في سان فرانسيسكو، لكن المجال المزدهر لبحوث صدمة الأطفال كان يجذبها لمزيد من البحث، فما حصل، كما تقول، بالنسبة للأطفال كان "مفزعا إلى درجة الموت، لكنهم نجوا من الموت."

وعندما أرسل أحد الصحفيين مقالة للينور حول اختطاف تشاوتشيلا، أدركت الطبيبة المختصة بالأمراض النفسية بأنها دراسة لحالة طبيعية كانت تنتظرها لما يقرب من عقد من الزمن قبل الحصول عليها: مجوعة من الأطفال الذين مروا جميعا بنفس تجربة الحادث المثير للصدمة النفسية. ورغم أنهم لم يصابوا بأذى جسدي، فجميع الأطفال، من أصغرهم إلى أكبرهم سنا، قد تغيّروا إلى الأبد. يقول إيث: "حالة الاختطاف تلك والتهديد بالموت تركتا بصمة لم يتجاوزها العديد منهم منها مطلقا، ونحن نعلم الآن، بعد عقود من الزمن، بأن المسار المعتاد للأحداث التالية عبارة عن صدمة مدمّرة".


فزعٌ وكوابيس

على مدى السنة التالية للحادث، التقت لينور مع مجموعة صغيرة من الآباء و23 طفلا ناجيا بقوا في تشاوتشيلا، مجرية مقابلات لكل واحد منهم لمدة ساعة على أقل تقدير؛ وغالبا ما امتدت المقابلة إلى ساعتين أو ثلاث، حسب قولها. ويبدو أن كل طفل تحدثت إليه كان يحمل ندوبا عقلية من جرّاء حادثة الاختطاف. تجلّت الحالة بينهم بشكل مختلف، فبالنسبة للبعض، فقد إنخفض تقديرهم لذاتهم كثيرا، بينما صار آخرون يشعرون بالذعر وقلقين من رؤية شاحنات نقل صغيرة غريبة. 

في الواقع، وبعد مرور 18 شهرا على الحادثة، رمى أحد الأطفال الأكبر سنا قطعة معدنية على سائق لسيارة غير معروفة كانت واقفة بالقرب من منزله، ليظهر أنه سائح ياباني كان سائرا في طريقه، وتعرّضت سيارته لعطل مفاجئ. وصارت حالات الفزع الليلية شائعة بين الأطفال. كما تم إبلاغ الآباء بعدم دخول غرف أطفالهم بعد مرور فترة طويلة من الحادث، لأن فعل ذلك، بحسب تقدير الخبراء، سيكون بمثابة "مكافأة" لسلوك حصول الكوابيس.

تقول "جينفر براون"، التي كانت بعمر تسع سنوات خلال الاختطاف: "عندما عدنا للمنزل، اعتقدت أن كل شيء سيكون على ما يرام. لكنني أتذكّر كما كثيرا من الكوابيس التي كانت تحاصرني مباشرة، وأخبرتني والدتي بأنها كانت تراني وأنا أمشي أثناء النوم، ناهيك عن دخولي إلى غرفة والدي وأنا بحالة صدمة، وابلغهما بوجود "أشخاص يقتلونني".

واكتشفت لينور بأن عددا من الأطفال حلموا بموتهم، وبوضعهم على شكل صف وإطلاق النار عليهم، أو قتلهم من قبل الخاطفين في الحافلة. بالنسبة للطبيبة لينور، كانت هذه اشارات إلى أن أفكار الأطفال "الممزقة جرّاء الصدمة" قد وصلت إلى مرحلة توقع الموت.

وعانى جميع الأطفال الذين التقتهم الدكتورة لينور أيضا من مخاوف متعلّقة بالاختطاف، فعشرون من أصل 23 طفلا كانوا يخشون من الوقع في الاختطاف ثانية، وخاف غالبيتهم من المواقف اليومية التي من الممكن حصولها في أي وقت، من البقاء بمفردهم، فضلا عن خوفهم من العتمة والاشخاص الغرباء والأصوات المرتفعة. وكان لدى ثمانية أطفال قلق شديد لدرجة تجعلهم يصرخون أو يركضون أو يطلبون المساعدة عندما يواجهون مثل هذه الأمور اليومية.


تواصل الصدمة

وبعد سنوات، بقيت حالة اختطاف تشاوتشيلا عالقة في أذهان الناجين منها، فبعد مرور أربع سنوات، لاحظت لينور أن كل طفل ما زال يستعرض التأثيرات الحاصلة له لفترة ما بعد الصدمة، مثل الشعور العميق بالحرج أو الكوابيس المستمرة. وعانى كل واحد من الخوف من الأشياء المعتادة، رغم أن البعض منهم بدأ يتغلّب على هذه الحالة. تقول لينور: "عندما نمضي نحو مرحلة النضوج العمري، لا تذهب صدمة الطفولة، وفي الواقع، فإن بعض تلك الصدمات تزداد سوءا".

ومضت الدكتورة لينور بمتابعة أطفال تشاوتشيلا على مدى خمس سنوات، ناشرة بحثا مميّزا كان من ضمن أوائل البحوث الموجهة على تجربة الأطفال المصابين بالصدمات النفسية. وصار بحثها حول ضحايا حادثة تشاوتشيلا من مصادر تأسيس الطب النفسي الخاص بالأطفال، مبيّنة أن الأطفال ليسوا محصنين ضد الصدمات النفسية، كما كان يعتقد سابقا. وعلى نحو يماثل كثيرا ما يمر به البالغون، وصفت لينور كيف يمكن أن تطول عواقب صدمة الأطفال النفسية، مع تداعيات تمضي بعيدا، وصولا إلى مرحلة النضج العمري.

اليوم، يدرك خبراء الصحة العقلية بأن جهود الدكتورة لينور في تشاوتشيلا قد مهّدت الطريق للفهم الحديث من أن الصدمة النفسية للأطفال يمكن أن يصاحبها عواقب لزمن طويل. تقول الدكتورة "اليزا بينيدك"، المتخصصة بالطب النفسي للأطفال والرئيس السابق للرابطة الأميركية للطب النفسي: "لقد تعلّمنا الكثير منذ حادثة تشاوتشيلا، والدكتورة لينور كانت بحق رائدة مطلقة. أنا أعتقد بأن كل واحد يقر أن الأطفال يصابون بالصدمة جرّاء هذه الأحداث، ومن الممكن أن تبقى تلك الصدمات لفترة طويلة."


معلوماتٌ جديدةٌ ومفيدة

وتشير بينديك إلى أن خبراء الصحة العقلية تعلّموا بمرور الوقت بأن الصدمة يمكن لها أن تكون تراكمية، مع أحداث مؤلمة متعددة مضافة لتضع الأطفال ضمن خطر هائل لعواقب طويلة الأمد.

وبخلاف ما كان الوضع عليه في العام 1976، يوجد حاليا ما يطلق عليه اصطلاح "اضطراب ما بعد الصدمة" كتشخيص سريري للأطفال الذين يمرون بحوادث مفجعة؛ ويوظف مقدمو العناية الصحية حاليا علاجات مستندة على الأدلّة من التي بامكانها مساعدة الأطفال الذين يعانون من الصدمات النفسية، بحسب الدكتور إيث، الذي يضيف قائلا: "من المنظور العلمي، كانت حادثة الاختطاف علامة فارقة، فقد عملت جهود الدكتورة لينور تير في بحث مخرجات حادثة تشاوتشيلا، ومن بعدها ما أعقبها من بحوث أجراها مختصون آخرون، على تأسيس اضطراب ما بعد الصدمة للأطفال، وجعله أمرا منطقيا وظرفا صحيا يستدعي التقييم والعلاج."

وتعلق الدكتورة لينور بأنه علاوة على ذلك، عمل ذلك التطوّر في فهم الصدمة النفسية على تغيير طريقة الاستجابة لحالات الأزمات؛ فبعد وقوع حادثة إطلاق الرصاص الجماعي في مدرستي منطقة كولومبين وساندي هوك قبل خلال الفترة الماضية، على سبيل المثال، كان مستشارو الصحة العقلية يتقدمون صفوف المسعفين لمساعدة الناجين.

تقول الدكتورة لينور عن الناجين من حادثة تشاوتشيلا: "لقد مهدوا لنا الطريق لفهم المزيد من الأمور المعاصرة؛ من قبيل ماذا سيحصل حينما ترغم الأطفال على ترك آبائهم عند منطقة حدودية؟ أو ماذا سيحصل للأطفال عند وقوع حالات إطلاق الرصاص المهولة في المدارس  المنتشرة كثيرا في الوقت الحاضر؟ إن أطفال حادثة تشاوتشيلا يعدون من الأبطال، ويبقى موقفهم وما وحدث بعده درسا يعلمنا ماهية الصدمة النفسية للطفولة.. حتى ولو بعد خمسين عاما على الحادثة."