عبد الزهرة محمد الهنداوي
فرقٌ كبيرٌ بين أن تذهب البلدان إلى الاقتراض في وقت الأزمات، واقتراضها عند الرخاء، ففي الحالة الأولى قد لا تجد من يُقرضها، وإن وُجد فإنه سيضع شروطاً قاسية، يسعى من خلالها إلى إخضاع اقتصاد تلك الدولة لهيمنته، وبالتالي التحكم بمقاديرها الاقتصادية، وربما حتى السياسية، لذلك فإنَّ الكثير من الخبراء والمعنيين يعدّون القروض مصيدة تنصبها الدول الغنية، للدول الفقيرة أو النامية.
وقد وقعت دول عدّة في هذه المصيدة، الأمر الذي تسبّب بانهيار عملتها، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة والتضخم، وسوى ذلك من العوامل المدمرة للاقتصاد.
لكنَّ السؤال المطروح هنا، لماذا تلجأ بلدان أخرى، تعيش حالة من الرخاء أو الاستقرار الاقتصادي، إلى الاقتراض؟.
هل ثمة ضغوط من نوع ما على تلك الدول تُجبرها أو تُلزمها بالبحث عن مقرضين، حتى وإن كانت قروضاً بسيطة، لا تعني شيئاً بالمقارنة مع حجم الإيرادات والإنفاق الكبير لمثل هذه الدول؟
بتقديري أنَّ أيَّ بلد في هذا العالم، لا يريد أن يرهن اقتصاده بيد قوة أخرى، وبالتالي يصبح مجبراً على الدوران في فلك تلك القوة، شاء أم أبى، فهو مطالب بتسديد الديون ومستحقاتها، وفق توقيتات محددة، وعندما تطول مدة التسديد، ربما تصبح قيمة الفوائد أكبر من قيمة القرض نفسه، وتكون المصيبة أعظم، إذا كان الاقتراض لأغراض تشغيلية واستهلاكية، أو لسد متطلبات حاكمة، كأن تكون حرباً أو ما يشبه ذلك، لكنَّ الحال تكون أهون لو كان الاقتراض لأغراض تنموية، وأحسن من ذلك هو أن يذهب المقترض إلى تمويل المشاريع العملاقة من تلك القروض، إذا ما وجد نفسه عاجزاً عن توفير التمويل اللازم لها من إيراداته، أو عبر الاستثمار.
وإذا انتقلنا للحديث عن العراق، فقد مرَّ بظروف صعبة ومعقدة خلال الفترة (2014 - 2022)، دفعت الحكومات المتعاقبة إلى الاقتراض الخارجي والداخلي لتأمين المتطلبات الحاكمة، مثل الرواتب والغذاء والدواء، ومستلزمات الحرب ضد الإرهاب، فلم يكن لتلك القروض، رغم ضخامتها أثر تنموي واضح في المشهد العراقي، ولكن يبدو هذا المشهد الآن مختلفاً عما كان عليه في تلك الفترة، بلحاظ، تنامي الاحتياطي النقدي من العملة الأجنبية الذي تجاوز حاجز (100) مليار دولار، مع تحقيق تعاف واضح بأسعار النفط خلال السنتين الماضيتين، فضلاً عن التوقعات الإيجابية ببقاء سقوف الأسعار مرتفعة فوق الثمانين دولاراً على الأقل للعام الحالي 2024، يأتي ذلك في ظل قراءات اقتصادية، لمؤسسات عالمية مرموقة، تذهب باتجاه أنَّ الأنشطة الاقتصادية غير النفطية، ستحقق نمواً متصاعداً خلال العام الحالي بما لا يقل عن 5 ٪، وهذا يؤسس لفكرة التحول التدريجي من الأحادية النفطية، إلى التنوع الاقتصادي، وبقدر ارتباط كل هذه القراءات الاقتصادية بملف الديون، فإنَّ الحكومة تتحدث عن تقييد الاقتراض الخارجي بقيود صارمة، ولا يمكن الذهاب إلى الاقتراض إلا في حالة الحاجة إلى تمويل مشاريع ستراتيجية عملاقة جديدة، يمكن من خلالها تسديد القرض، وهذا توجه جيد من شأنه أن يحرر الاقتصاد العراقي من الكثير من القيود، ولكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال، ترك الدين الفعلي الموجود حالياً، والذي يُقدر بنحو 70 مليار دولار، أكثر من ثلثيه دين داخلي، وما تبقى هو دين خارجي، الذي يقدر بنحو 20 مليار دولار، وهذا الدين بمجموعه، يُعد دَيْناً آمناً لعدة أسباب، أولها هو أنَّ أغلبه داخلي، وثانيها نسب الفائدة متدنية، وثالثها لا يشكل سوى 30 ٪ من حجم الناتج المحلي الإجمالي، ورابعها وجود احتياطي نقدي يغطي هذا الحجم من الدين، ومن هنا، ومع وجود وفرة مالية، يمكن الذهاب بتسديد جانب من هذا الدين، بغية خفض مستواه لإتاحة الفرصة المناسبة لرفع معدلات النمو للأنشطة غير النفطية، ولانطلاق التنمية من دون تكبيلها بالمزيد من القروض.