فاعلية الهامش في الثقافة العراقيَّة

آراء 2024/01/29
...

 د.جواد الزيدي

التجربة العراقية لم تختلف كثيراً عن التجارب العالمية، إذ فيها الكثير من الهوامش التي تجاوزت مركزية المنجز المتحقق، ولولا تلك الهوامش لم يكن ذلك العمل، بشكله الذي عرفه الجمهور على مستوى القصيدة، والأغنية، واللوحة، والمسرحية وغيرها من المنجزات الأُخرى، وبتتبع بسيط لعديد هذه المنجزات التي وصلتنا كاملة، فإن فعل الهوامش فيها كبير جداً، وعدم وجود ضرورة لسرديات هوامش الجميع، لكونها متماثلة في تلك البنيات العميقة.

 لقد شغلت ثنائية (المركز والهامش) مفكري ما بعد الحداثة، وتحديداً ما جاء به (جاك دريدا) الذي عالج هذه المسألة في تصعيد الهوامش إلى مستوى المراكز، ويعد أن الهامش هو الأساس، اذ يقول (إذا لم تكن هامشاً يوماً ما، فلن تكن مركزاً أبداً)، بمعنى إن الهوامش هي أساس تلك التجليات والالتماعات، وإن جاءت بمسميات مختلفة في طروحات المفكرين، حيث كانت رؤية (لينين) للعمل الفني تتجسد في التفاصيل أو الهوامش وليس بالخلاصات النهائية، التي نلتقي عندها مع العمل الفني كاملاً، اذ إن الفنان والمبدع في مختلف الأجناس لم يتوصلا إلى تلك الخلاصات إلا بعد مروره بتفاصيل مثلتها مراحل العمل الفني، ولعل اسهامة (باشلار) في تحديده للمكان الأجمل تضع تعليلاً لذلك، إذ إن المكان الأجمل لديه هو المكان الروحي المرتبط بالطفولة والصبا، والذكريات الأولى التي يتخذ منها المبدع أساساً لحقله الفني، أو في علاقة السورياليين (الشاعر بول ايلوار، والرسام ماكس أرنست) الذين التقيا على خطوط المواجهة في الحرب العالمية الأولى، ومن ثم أعلنا انتماءهما إلى السوريالية والسير على خطاها الفكرية.

 والتجربة العراقية لم تختلف كثيراً عن التجارب العالمية، إذ فيها الكثير من الهوامش التي تجاوزت مركزية المنجز المتحقق، ولولا تلك الهوامش لم يكن ذلك العمل، بشكله الذي عرفه الجمهور على مستوى القصيدة، والأغنية، واللوحة، والمسرحية وغيرها من المنجزات الأُخرى، وبتتبع بسيط لعديد هذه المنجزات التي وصلتنا كاملة، فإن فعل الهوامش فيها كبير جداً، وعدم وجود ضرورة لسرديات هوامش الجميع، لكونها متماثلة في تلك البنيات العميقة. فعلى صعيد الأغنيات التي تغنى بها الكثير تتعدد الهوامش المسكوت عنها أو غير المضاءة، فاغنية (ياحريمة) التي كتبها الشاعر ناظم السماوي بقيت لدى الملحن محمد جواد أموري خمس سنوات وتم تلحينها مرات عديدة، ولم يطلق اللحن، إلا حينما توافر الحدث الخاص بالحزن الذي تمت معرفتها من خلاله، فضلاً عن قصتها الحقيقية التي عاشها الشاعر، أو أغنية (غريبة الروح) التي كتبها الشاعر الراحل جبار الغزي بايحاء من حنين والدته المرأة الجنوبية التي تزور بغداد وتلتقي بولدها الغائب، واستطاع تسجيل ما قالته عفوية هذه المرأة (جم هلال هلن وانت ما هليت، وانه وغربتي وشوكي أسولف بيك ليلية، يالمامش إلك جية) ثم أضاف عليها لإكمال ما جاءت عليه الأُغنية، واغنية (ينجوى) للفنان سعدون جابر وهامشها الخفي الذي رواه شاعرها الراحل (زهير الدجيلي) الذي استطاع صياغة نصه من خلال طالبة في الاعدادية التي تمر من أمام شياك مكتبه ليصوغ هذه الكلمات، وهي مناجاة لهذه الفتاة الصغيرة من دون الحديث معها.

 ولعل دراسة الهوامش يوازي، أو يتجاوز أحياناً سلطة النص الرئيسه ومركزيته، لأن الهامش هو المفتاح الأساسي للتجربة. ففي رسائل الشاعر حسين مردان إلى الفنان شاكر حسن آل سعيد، الكثير مما نقوله عندما يوصيه بالانحياز لثقافته الشرقية وعدم الانسياق مع ثقافة الآخر، مما تجسد لاحقاً ببحث (آل سعيد) المعمق في الثقافة العربية الاسلامية على مستوى الحروفيات ضمن مساره مع (جماعة البعد الواحد) أو في ما بعد في اشتغالاته الفردانية وذهابه إلى العرفانيات والطلاسم والنقطة وغيرها، مما شكل جوهر تجربته المتفردة، وقد كان تأثير شقيقة المزخرف (ناجي حسن) له أثره أيضاً في توجهاته اللاحقة، على الرغم من دراسته في البوزار وصراع أساليب الحداثة في باريس، إزاء تلك الحقبة. وفي ذات الوقت أحدثت رسائل الشعراء الستينيين (موجة صاخبة) إلى صياغة المسار الشعري لهذا الجيل أو هذه المجموعة، والتضادات الجيلية التي ترى القصيدة عكس ذلك. 

 وقد تصلح الكثير من الهوامش المهملة لدراسات معمقة تكشف عن طبيعة توجه الفنان وتتويج أفكاره من خلال تلك اليوميات التي أغنت عددا كبيرا من التجارب. ويمكن أن يقال إن الرسائل الشخصية والمكاتبات الأدبية والفنية تشكل جزءاً كبيراً من صناعة التجربة وتكريسها، ويمكن أن تكون المكاتبات بين الفنانين (عبدالجبار البناء، ومحمد غني حكمت) دليلاً لذلك، على الرغم من خصوصيتها الاجتماعية، لأن تكون مادة محركة وجوهرية في تجربة الاثنين من خلال المعالجات التقنية، أو المضامين الفكرية التي ينضوي تحتها الخطاب المرئي لكل منهما. 

وتتخذ سلطة الهامش مساراً آخراً عندما تتجاوز قوانين الرسم، وطقوسه، وتقنياته، وتقترن بالمرجع الفكري الذي استطاع أن يؤسس جوهر التجربة وروحها، مثلما تحولت تجربة الفنان (كاظم حيدر) من الدرس الأكاديمي والمقاربة التشخيصية، التي آمن بها في بداياته إلى البحث في جوهر الحياة الاجتماعية ونظرياتها الفلسفية، لتصبح مادته الأساس واعلاء شأن الرمزية المحلية والوصول بها إلى مداها الانساني عندما تحدث (بصرياً) عن البطولة، والشهادة، والسمو.

 ومن جانب آخر فإن فاعلية المراكز وأثرها الابداعي والثقافي، هو نتاج فاعلية منتجي هذا الخطاب القادمين من الأطراف البعيدة، أو الهوامش واعادة هيكلة تلك الأفكار والرؤى وترتيبها من جديد، لتكون ثقافة وطن في أقل تقاديرها، وتتجاوز ذلك إلى المعرفة الانسانية على سواء الآداب والفنون وجميع النتاج الفكري، ليحل الهامش محل المركز، على الرغم من احتواء الأخير (مكانياً) لنتاجات الهوامش واندماجها في المراكز، إلا أن صاحب الرؤية يديم تواصله مع بيئته الأولى واستثمار خصائصها الجمالية والاجتماعية، كما فعل شعراء وروائيون وتشكيليون، واجتراح مسميات لأعمالهم اقتراناً بالبيئة الأولى والثقافة الأولى التي تتصدر النتاج ويتسم بحدودها.