حقيقة الانسحاب الأميركي من العراق وسوريا

آراء 2024/01/30
...

سناء الوادي

إن عدم انكفاء النزاع داخل الدولة الواحدة وامتدادها لخارج حدودها وتدخل أطراف أخرى بها، هذا هو لبُّ الخصوصية التي يتفرّد بها الشرق الأوسط وتيقنت له الولايات المتحدة الأميركية، فقد زادت في الآونة الأخيرة العوامل الضاغطة التي هزت هيبة العم سام كقوة مهيمنة ترزح دول الإقليم تحت مشيئتها، فمنذ قرابة الثمانين يوماً تدك معاقلها في سوريا والعراق دون أدنى وجل

وها هي تخرج ربيبتها المطيعة «إسرائيل» عن الامتثال لرغبتها بعدم توسيع دائرة الصراع وإتمام مهمتها في غزة بأسرع وقت، فضلاً عن اللجوء إلى غريمها الحقيقي في قيادة العالم « الصين « للتوسط عند جماعة الحوثيين في اليمن الممسكة بزمام التجارة العالمية في باب المندب بكل حزمٍ، غير آبهةٍ ببضع هجمات شنتها واشنطن على بعض مخازن السلاح في صنعاء والحُديدة وضرب منصات إطلاق الصواريخ التي استعاضت عنها على الفور بإطلاق المسيّرات البحرية وإيقاع الخسائر بالسفن البريطانية والأمريكية المتجهة للكيان المحتل، إنّ هذا التحدّي الفاضح لوجود أمريكا وهيبتها أفقدها القوة الرادعة في المنطقة ناهيك عن لعبة عضّ الأصابع بينها وبين الدّب الروسي في أوكرانيا والتي قد اقترب على ما يبدو من تطورات الأوضاع على الأرض بتر ذراع الناتو في كييف. وفي خضمّ الأحداث الحُبلى بالمفاجآت كانت قيامة طوفان الأقصى التي ذكّرت «جو بايدن» اخيراً بأهدافه الانتخابية التي وعد بها الأمريكيين والمتضمنة في طياتها الخروج من الشرق الأوسط استكمالاً لخروجها من أفغانستان وتسجيل حدث تاريخي يسطّر في ولاية الرئيس الحالي ما يُرضي الناخب لإعادة الثقة فيه بولاية رئاسية ثانية، فبعد فشله بإنجاح التطبيع السعودي مع إسرائيل وتشكيل شرق أوسط جديد تأخذ فيه الأخيرة دور الأيقونة، وهنا برزت فضائل الطوفان الفلسطيني المقاوم، ليشهد الجميع بأن قضية المقاومة للوجود الأجنبي ناشطة وفاعلة وقوية. كل الذي سبق من انفلات الحبال من اليد الأمريكية لربما أوحى لساكن البيت الأبيض بالبدء بلعبة خلط كلّ الأوراق، وإثارة البلبلة وقيام فوضى خلاّقة في المنطقة لتقوم هي في ما بعد بإعادة ترتيب الأوراق حسب ما تشاء ،فمن الواضح أنّ الإشارات التي تريد واشنطن بثّها لدول المنطقة أنها ستنسحب لتتركها بين براثن عصابات الدولة الإسلامية « داعش» لتواجه مصير الاقتتال الداخلي وزعزعة الاستقرار، ولربما كان تفجير كرمان بإيران والذي تبنّته داعش، من ضمن هذه الإشارات وغير خافٍ ما قد يصل لإسرائيل من الاعتقاد بأنها ظلت وحيدةً بمواجهة الخطر الإيراني.
مما لا شك فيه أن الولايات المتحدة ساعدت الدولة العراقية من جهة وتنظيم قسد في سوريا من جهة أخرى، على تحجيم دور داعش في الدولتين، عقب عملية العزم الصلب التي بدأت عام 2014 وساعدت بعد العام 2021 بعد انسحابها الرسمي من أغلب قواعدها وتسليمها للأمن العراقي، ليبقى وجودها متمثلاً ب 2500 جندي والقليل من الدعم اللوجستي والسياسي فقط مع الحرص على علاقات جيدة مع الحكومة العراقية، ومع اختلاف الصورة كليّاً على المقلب الآخر في الأرض السورية، فهي هنا تتحالف مع عصابات خارجة عن سيطرة الدولة السورية وتحاربها وتسرق النفط السوري وتبيعه لحلفائه، وفي هذه الأيام نشهد نشاطاً طفيفاً لداعش في البادية والجنوب السوري فأين التحالف من ذلك؟
لكن السؤال الأهم الآن الموجّه لكل من يفزع من فكرة الخروج الأمريكي خشية الوقوع بما هو أسوأ والعودة بالبلاد لسيناريو العقد الماضي، عن ماهية الامتيازات التي حصل عليها العراق من الوجود الأميركي من الناحية الاقتصادية أو المعيشية، ما عدا استثناء العراق من العقوبات التي تطال الأموال العراقية في البنوك الخارجية، وإنّه من غير المتوقع أن تترك واشنطن مكتسباتها بهذه السهولة، ودون أن تغلق جميع الملفات التي اتفقت عليها مع الحكومة العراقية وكانت المبرر لوجودها هناك حتى الآن، وعلى الأغلب هي كما أسلفتُ لا تعدو كونها جولة انتخابية لبايدن تتم فيها المماطلة بجدول زمني ضبابي للخروج « بما يتناسب مع قدرة العراق على التصدي « حسب تعبير وزير الدفاع الأمريكي لويد  أوستن.
أمّا من ناحية الوجود الأمريكي في الشمال الشرقي السوري متمثلاً بقواعد عسكرية عند حقول الغاز والنفط السورية، فإن انسحابه إذا ما صدقت الأقوال سيكون انتصاراً حقيقياً للدولة السورية بإفشال تفتيت اللوحة الفسيفسائية للسوريين وإنه من باب التفاؤل احتمالية القيام بتفاهمات قد تنضوي على إثرها قسد تحت لواء الدولة هرباً من الهجمات التركية الشرسة، ما قد يعني ذلك عودة الثروات المنهوبة للشعب السوري، ولا ننسى أن بوصلة الدول العربية قد اتجهت منذ انعقاد القمة العربية الأخيرة في السعودية إلى الشام بعد قطيعة دامت لسنوات، فالخروج من قيد العقوبات الأمريكية والانفتاح الاقتصادي العربي باتا قاب قوسين أو أدنى.
كل تطورات المستقبل محكومة بضبابية المشهد الحالي في غزّة فقد يكون التصعيد في أي لحظة أو قد تتجه الأوضاع للتهدئة مع الفشل المتواصل للكيان المحتل في تحقيق الانتصار الذي ينشده.

  كاتبة سورية