الإرهاب الصهيوني وآثاره العالميَّة: طوفان الأقصى أنموذجاً

آراء 2024/01/30
...

   كمال انمار

إنّ الدول التي تتأسس على الإرهاب في بنيتها وتجلياتها لا بد أن تمارسه على الآخر المتمثل بالمواطن المعارض أو ما تسميه العدو- أيا كان- بجميع الأشكال وبالتالي، فإن البنى السياسية القائمة على هذا النمط داخلة تلقائيا بمضامين الإرهاب بلا حدود،علماً بأن هناك فرقا واضحا بين الصراع الطبيعي للدول المتضمن للإرهاب، وبين ممارسة الإرهاب ذاته والتأسيس عليه بشكل منهجي وبيّن، ولعلّ قيام الكيان الصهيوني كان من ذلك النمط المؤسس على الإرهاب المنطلق من فكرة الصهيونية الاستعمارية، وهذا الإرهاب خرج عن دائرة الانتماء اليهودي الضيق ليشمل أطيافاً أخرى، ولعل تيار المسيحية الصهيونية، الذي كان رائد مشروع التهجير اليهودي وتهيئة خروج المسيح الثاني، كان أوضح تيار مسيحي، يتبنى فكرة الإرهاب الصهيوني على مستوى التأثير السياسي ودعمه.
 إضافة لذلك فإن اتباع هذا التيار مؤمنون مُسبقا بضرورة إنشاء الدولة اليهودية، حتى قبل أن يؤمن بها اليهود أنفسهم لغايات استعمارية بحتة إذ إن «ملاذات العالم المسيحي يجب صيانتها بتحديد مكانة إقليمية إضافية لها مما هو معروف في قانون الأمم».
علماً بأن هذا التيار له عدة مشارب استقّ منها فلسفته في البعث الثاني، وقد اختلف منظروه ما بين ضرورة تحوّل اليهود إلى مسيحيين قبل بناء دولة لهم، وبين أن يبقوا يهودًا حتى بناء تلك الدولة، ومن ثم تحولهم للمسيحية، ويبدو أن أنصار فكرة بقاء اليهود على ما هم عليه نجحوا عمليا في عملية الاستقطاب السياسي لفكرتهم، وبالتالي التوطين العالمي لجميع اليهود في أرض تربطهم بها قدسية دينية فائقة، وقد عبّر هرتزل في كتابه الدولة اليهودية ضمن حديثه عن الاختيار بين فلسطين و الأرجنتين قائلا» إن اسم فلسطين في حد ذاته سيجتذب شعبنا بقوة ذات فعالية رائعة»وهذا ما تقرر في نهاية الموقف واختيار أرض فلسطين كبؤرة استيطانية مناسبة.
كان هذا التأسيس على الإرهاب يتمثل بالميليشيات المدعومة تارة من السلطة الدينية المؤمنة بالصهيونية، وتارة يدعمها الاحتلال البريطاني آنذاك ولاحقا الولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت الداعم الأول و الرئيسي -إضافة لدول أوروبا العظمى-لاستمرار الإرهاب الصهيوني، ولولا هذا الدعم المستمر الذي تتخفّى خلفه أهداف سياسية، وعقائد دينية و مصالح اقتصادية و مالية بحتة لما كان للكيان وجود أصلاً، وما كان له أن يستمر أن وُجِد، واذا عرفنا من جهة أخرى إن يهود إسرائيل غير منسجمين لا في السلوك ولا في العقيدة -على نحو ما- لوجدنا أن التركيبة السكانية الآن في الكيان يستحيل بوجودها أن توجد دولة تحكمها سلطات قانونية قائمة منظمة. وبالتالي يمكن أن نقول بشيءٍ من الدقة أن الكيان المُحتل ليس بدولةٍ وإنما هو مجموعات مختلفة تماماً- من حيث العقيدة بالدرجة الأساس- تحكمها سلطات دينية أو علمانية غير مسيطر عليها بواسطة القانون أو مؤسسات النظام.
وإن هذه المجموعات المتنوعة تختلف في رؤيتها للدين، وعلاقته بالدولة ومسألة المشاركة والإنخراط في النشاط المجتمعي والانتخابات والقيم اليهودية، وفي ورقة بحثية عنوانها «التصدّع الديني العلماني من خلال الحالة الإسرائيلية»، يوضح استاذ قسم العلوم السياسية عبدالقادر عبدالعالي ما وصل إليه المجتمع الإسرائيلي من تصدع بين المتدينين والعلمانيين من جهة و بين المتدينين أنفسهم، وأن الخلاف-التصدع هذا «يدور حول المدى الذي تقف عنده الدولة في دعمها ومساعدتها للمؤسسات الدينية اليهودي».
ولو انتقلنا من مسألة تاريخية وأصول الإرهاب الصهيوني وانقسامات الكيان الاثنية إلى الواقع، الذي تجلى فيه هذا الإرهاب بعد ٧ اكتوبر لقلنا إن الأمثلة متعددة، وهائلة تتراوح بين التهديد بالتصفية، والفصل الوظيفي ولقد بانت في الآونة الأخيرة هذه الظاهرة، التي كانت ربما مخفية على البعض لتظهر جلية واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار. ليشهد العالم أن الإرهاب هذا قد وصل إلى أروقة التعليم الجامعي و المدرسي والمجال الإعلامي والفني والثقافي، وبالتالي فإن المسألة تخرج عن أي إطار يتمحور حول الحقيقة أو الحق أو مصطلحات الاستهلاك الإعلامي، فلقد بانت الصهيونية واتضحت تماما، وليس أمامنا إلا التسلح بالمعرفة، لنعرفَ أن المشكلة بنيوية-سياسية على أساسها بِنيت دول و شُرعتْ قوانين خصوصا قانون معاداة السامية في فرنسا، والذي تبناه البرلمان الفرنسي في 4 ديسمبر2019 وقد ساوى هذا القانون بين «معاداة الصهيونية ومعاداة السامية إلى حد كبير وقد تم التصويت على هذا القانون بأغلبية ضعيفة بعد جدل كبير وتخوفات من أن يستخدم لتكميم الأفواه، ولكن هذا القانون كغيره تم تمريره، وفي أكتوبر 2023 وقبيل معركة طوفان الأقصى توجه مجموعة مشرّعين فرنسيين للمضي بصيغة قانون جديد يجرّم عدم الاعتراف بإسرائيل أو إثارة الكراهية حولها.
وما يدهشنا في الآونة الأخيرة وبعد حادثة 7 اكتوبر أنّ كل من يتصدّى لدعم القضية الفلسطينية، سيكون مصيره إما الطرد أو الهجوم الإعلامي والثقافي والسياسي، الذي يفضي إلى الطرد، والنبذ بلا رحمة، ولعل حادثة استقالة رئيسة جامعة هارفارد كلودين غاي خير مثال للإرهاب الصهيوني، الذي يمارس بكل حتمية على أي شخصية دون استثناء إذا ما عارض توجهات السياسة الإسرائيلية، بوضوح وتعاطف مع المدنيين الفلسطينيين.
فگلودين كاتبة وباحثة و هي عميدة كلية الآداب في هارفارد منذ عام 2018 ورئيسة جامعة هارفارد منذ عام 2023، تم استجوابها في الكونغرس فقط لأنّها - ومجموعة من رؤساء الجامعات الاخرى- اعتبرت التظاهرات المؤيدة لفلسطين في الحرم الجامعي ضمن حرية التعبير! لكن اللوبي الصهيوني مارسَ أقسى أنواع الضغط الإعلامي على گلودين، بل وصلَ الأمر للتشهير بها والشك بمؤلفاتها وأبحاثها، وذلك عبر إطلاق الاتهامات وبث الأكاذيب عبر الإعلام المأجور، بل وعبر المشرّعين الذين تقف وراءهم الصهاينة
المتنفّذون.
ولم يقف الحد عند استقالة گلودين، بل وطالب 74 مشرعا في الكونغرس بدعم من الملياردير الصهيوني بيل آكمان بإقالة كل من رئيسة معهد ماساشوستس سالي كورنبلوث، ورئيسة جامعة بنسلفانيا ليز ماجيل، للسبب نفسه الذي أجبر گلودين على الاستقالة، رغم أن الأخيرة حظيت بدعمٍ كبير من إدارة الجامعة، ولكنها في نهاية الأمر استقالت، و ذلك بسبب الضغوط غير الاعتيادية التي مارسها الصهاينة عليها، وعلى كل من يحاول أنْ يخرج عن قاعدة « دعم إسرائيل واجب على الغرب/ العالم الحر»، وهذا ما يردده نتنياهو وحكومته عن وجوب أن يقف العالم الغربي معه ضد ما يسميه محور الشر!. أما على المستوى الإعلامي فقد كانَ الإرهاب الصهيوني أكثر وضوحا، حتى على اليهود الذين يناوؤن الحرب! فقد تمت إقالة رئيس تحرير مجلة آرت فورم المشهورة ديفيد فيلاسكو بعد نشر رسالة مناهضة للحرب الإسرائيلية الهمجية، وكذلك تمت إقالة رئيس تحرير مجلة أيلايف العلمية مايكل آيسن، رغم أنه يهودي و ذلك بسبب إعادة تغريده بتغريدة تدعو فقط لإعادة النظر في موضوع المدنيين الفلسطينيين، أما مها دخيل الوكيلة والمنتجة في وكالة الفنانين المبدعين CAA فقد أقيلت من منصبها في الوكالة، إثر نشرها فيديو يدعم الفلسطينيين على انستغرام بشكل صريح.
ولم يتوقّف الإرهاب الصهيوني على مستوى الإعلام والتمثيل، بل وصل حتى الفنون التشكيلية، فمثلا تم منع الفنانة فلسطينية الأصل سامية الحلبي من إقامة معرضها في جامعة انديانا، وفُرضت نوع من الوصاية على المبدعين الفلسطينيين في الغرب، أو الداعمين للقضية الفلسطينية بشكل خاص.
يتّضح ممّا سبق أنّ الإرهاب الصهيوني الذي نَعْرفُ أنه متجذرٌ في السياسية الإسرائيلية أخذ يتبلور بصورةٍ منظمة على مدى عقود من الصراع، ليصل إلى أروقة الجامعات والهيئات الإعلامية ومضى يُسكِت المعارضين لإسرائيل وسياساتها بشتّى الوسائل، ليس هذا وحسب، بل إنّ هذا الإرهاب الغاشم يرفض حتى احترام تصريحات الدول الأخرى وقرارات الأمم المتحدة والاتفاقيات الموقّع عليها، ويضربها عرض الحائط، وكُل ذلك يحصل بمساعدة الولايات المتحدة بالدرجة الأساس التي تمثل صمام الأمان لوجود المستعمرة الإسرائيلية في الشرق الأوسط حيث “ إن الولايات المتحدة تعتبر إسرائيل حارساً أميناً لمصالحها في المنطقة العربية لذلك تدعمها بالمال
والسلاح”.
الولايات المتحدة نفسها التي تدّعي في كل حرب تخوضها منذ الحرب العالمية الثانية، وحتى الآن بأنّها إنما تخوض الحروب للتحرير والبناء الديموقراطي كذباً وبهتاناً فما هي إلا دولة مارقة كما يسميها نعوم تشومسكي تدعم الديكتاتوريات في العالم، وتمدهم بالسلاح وتبقيهم في السلطة ما داموا يحمون مصالحها، ومتى ما فقد هؤلاء عنصر الحماية الأمريكي ظهرت في بلدانهم بوادر الثورات والإرهاب والفوضى.