جنين تدفع ثمن تداعيات الحرب على غزّة

بانوراما 2024/01/30
...

 نبيه بلوس
 ترجمة: بهاء سلمان


عندما تأتي غارات الجيش الإسرائيلي، تحصل الكثير من الأمور بشكل فوري داخل مخيّم اللاجئين الفلسطينيّ في الضفة الغربية المحتلة؛ حيث يصرخ السكان ويعمد أفراد الأسر إلى التجمع في مكان واحد، ويتمدد الكثيرون على الأرض، بينما يهرع البعض إلى السيارات ليضغطوا على المنبهات لايقاظ الآخرين قبل تشغيل المحرّك. وبدلا من رفع الأذان للصلاة، تصدح مكبرات الصوت في المساجد بتحذيرات من حصول توغل عسكري إسرائيلي.


يتلو ذلك القعقعة المزعجة لجرافة D9 الإسرائيلية الضخمة، وهو صوت يسمعه "عيسى حويل" منذ 33 عاما، مدركا بأن قدوم هذه الجرافة هو مقدمة لنوبة من الدمار الذي سيحيل طرق المخيّم إلى مستنقع مضطرب من الأوحال والإسفلت المتصدّع والأنابيب المحطّمة.
ذات صباح وبعد إحدى الغارات الإسرائيلية على المخيم، صعد هذا الشاب إلى جرافة انزلاقية يمتلكها صديقه، محاولا تسوية الشارع كي يكون في وضع ملائم للاستخدام.
وفي أعقاب هجوم قوات حركة حماس على المناطق المحيطة بقطاع غزّة والتي يطلق عليها مستوطنات غلاف غزّة في السابع من تشرين الأول الماضي، لم يقم الجيش الإسرائيلي بغزو غزّة فقط، بل إنه عمل أيضا على تصعيد اعتداءاته على مناطق يعدها مصدرا للمقاومة الفلسطينيّة المسلحة داخل الضفة الغربية. وغالبا ما كان مخيّم جِنين للاجئين، وهو المنطقة السكنية المتداعية والمكتظّة ببنايات قديمة وشوارع غير منتظمة، يمثل الهدف الرئيس لتلك الستراتيجية الإسرائيلية القديمة.
"23 مرة؟ 24 مرة؟ لقد أضعتُ مسار عدد المرات التي فعلت فيها هذا الأمر منذ السابع من تشرين الأول الماضي،" بحسب تعبير عيسى حويل أثناء ما كان يدفع كومة من البناء عن واجهة أحد المتاجر، ومن ثم أنزل دلو الجرافة لإزاحة الانقاض.

ارتفاع عدد القتلى
وفي اليوم التالي مباشرة، تلقى الشاب حويل رسالة من ضابط استخبارات إسرائيلي يشرف على المخيّم، ينبهه إلى "ضرورة عدم تكلفه المشقة وعناء تصليح الطرق ’لأننا عائدون قريبا جدا‘". ومن المهم الاشارة إلى أن القوات الإسرائيلية قامت بالاغارة على مخيّم جنين أكثر من أي موقع آخر في الضفة الغربية، وقتلت خلال تلك الغارات 78 فلسطينيا على أقل تقدير منذ بدء الحرب؛ وهو يمثل نحو ربع عدد القتلى في كامل الضفة الغربية الذين لقوا حتفهم جراء هجمات شنها الجيش الاسرائيلي والمستوطنون منذ بدء الأعمال العدائية الاخيرة، وفقا لبيانات الأمم المتحدة.
وتقول إسرائيل إن الهجمات تهدف إلى منع ما حصل من انقضاض يوم السابع من تشرين الأول الماضي، والذي خلّف نحو 1200 قتيل اسرائيلي. بيد أن الساكنين والمنظمات الحقوقية يشيرون إلى أن الحملات العسكرية في جنين كانت الأكثر تدميرا من كل الأعمال الإسرائيلية خارج قطاع غزة، حيث تزداد يوميا أعداد الضحايا هناك. ويصر سكان مخيم جنين بأن غاية إسرائيل من هذه الأعمال التدميرية هي فرض عقوبة جماعية على مراكز المقاومة لجعلها منطقة غير صالحة للسكن.
يقول إبراهيم دياب، 59 عاما، والذي يعمل لدى السلطة الفلسطينيّة في جنين: "إنها معركة مضايقة، وليست بنادق فقط، إنهم يهاجمون أساسيات الحياة هنا."
لكن السكان وجماعات حقوق الإنسان يقولون إن الحملات العسكرية في جنين كانت الأكثر تدميرا من بين أية أعمال إسرائيلية خارج قطاع غزة، حيث تجاوز عدد القتلى الفلسطينيين الآن عشرات الآلاف ويقترب نحو الرقم 26 ألف قتيل فضلا عن عشرات الآلاف الآخرين من الجرحى والمفقودين ونحوهم.
وتعد مدينة جنين موطنا لأحد مخيّمات اللاجئين التسعة عشر التي أنشئت من قبل هيئات الإغاثة الدولية لإيواء الفلسطينيين الذين طردوا من منازلهم بعد قيام الحرب الإسرائيلية مع العرب في عام 1948، ولكنها أكثر من أي اسم آخر، أصبح اسمها رمزا لتفاني الأجيال الفلسطينية في المقاومة ضد الاحتلال الاسرائيلي.
تقريبا كل جدار، وزاوية شارع، وتقاطع طرق، وعمود إنارة يحمل ملصقا، بعضها أحالته حرارة الشمس إلى لوحة باهتة مائلة للبياض، والبعض الآخر مطبوع حديثا، يحمل صورة وجه شخص يعبر عن اسمه بأنه الشهيد...
وقبل أن تقوم الجرافات الإسرائيلية الضخمة بهدمها في تشرين الثاني الماضي، كانت الأقواس التي تميّز مدخل مدينة جنين تحمل نقشا يقول: "محطة طريق حتى نعود إلى المنزل".

زيادة الأذى
ويقول سكان مدينة جنين إن معاناتهم من الحملات الإسرائيلية متكررة من عقود؛ لكن ليس مثلما حدث هذه المرة من بشاعة. "يأتي الإسرائيليون في كثير من الأحيان، ولا نعرف ما إذا كانت ستتاح لنا فرصة تناول الطعام الذي نعده للغداء أو العشاء." بحسب وصف محمود أبو صابر، الذي كان يتحدث وهو جالس أمام مخبزه في الساحة الرئيسية للمخيّم، حيث أصبحت الآن مساحة موحلة متعرّجة تتخللها حفر مليئة بالمياه النتنة.
افتتح أبو صابر متجره قبل خمس سنوات، حيث كان يبيع أنواعا متعددة من الخبز، مزيّنة بمعجون الفلفل الأحمر أو الجبن أو الزعتر. ويقول إن الوضع كان صعبا دائما في المخيّم، لكنه خلال الفترة الحالي بات أكثر صعوبة يوما بعد يوم بعد معاناة الناس المستمرة من "التطفيش"، وهو مصطلح محلي فلسطيني يستخدمه هو وغيره من السكان ويعني إبعاد الناس عن
أماكنهم.
"كيف يمكنني بيع أي شيء؟ من سيأتي لي بمكان كهذا؟ أنا خبّاز، وكل ما أفعله هذه الأيام هو العمل هنا وسط الأوحال،" قالها وهو يشير إلى كومة من الحطام تركتها الجرافات الإسرائيلية أمام محله في وقت سابق من اليوم.
وعبر الساحة، قام طاقم العمل بوضع كابل سميك في خندق بينما قام عيسى حويل بتنظيف المزيد من أرض المنطقة. وتؤثر الغارات الإسرايلية في المياه والصرف الصحي وغيرها من البنى التحتية سلبا، حتى على سكان جنين الذين إعتادوا على شدة القتال. يقول هذا الشاب: "إن الناس يحبّون المقاومة، لكن التعب
يصيبهم."
ويقول أحمد حتاترة، وهو عامل في بلدية المدينة يبلغ من العمر ثلاثين عاما يرتدي سترة صفراء، ومحمود شريم، 52 عاما، الذي يرأس قسم الكابلات بشركة الكهرباء، إن جرافتين اسرائيليتين قامتا بقلع مستوى ثلاثة أقدام من الأرض مؤخرا لغرض الوصول إلى كابل الجهد العالي في المنطقة ثم قامت
بانتزاعه.

الإضرار بالبنية التحتية
"في كل غارة، نواجه مشكلة في الكهرباء، من الأعمدة والكابلات والمولّدات في كل مرة؛ وهي خسائر فادحة،" يقول شريم، منوّها بأنّ هذه هي المرة السابعة التي يتم استدعاؤه فيها للإشراف على عملية الإصلاح للعطل
نفسه.
وبعد إحدى الغارات الإسرائيلية الأخيرة، عاد السكان الفلسطينيون في اليوم التالي لتقييم المذبحة التي وقعت في منازلهم. حيث وطأ إيهاب مرعي، 23 عاما، فوق أنقاض شقته التي دمرتها غارة جوية اسرائيلية؛ بينما كان محمد صباغ يتخطى بصعوبة وجهد جهيد عبر الممرات المتفحّمة لمنزل عائلته، باحثا عن الألعاب التي يمكن أن يجدها لابنه حمزة البالغ من العمر خمس سنوات.
ويتوجه معظم سكان المخيّم كل ليلة إلى أقاربهم وأصدقائهم المقيمين في مدينة جنين أو القرى والضواحي المحيطة بها. وهكذا فعلت خالدية بزور، 33 عاما، وتكررت رحلتها لفترة من الوقت، حيث جمعت ابنتيها في منزل أحد الأصدقاء عند الغسق. "سأضطر لأخذ قدر من الطعام، لأني لم أرغب في أن أكون عبئا بقية الأحبة والأصدقاء، لكنني شعرت أن ما أقوم به كان أكثر من
اللازم."
تعمل خالدية منظفة منزل، ولا تحصل من عملها ما يكفي للإيجار في أي مكان آخر. والآن أثناء المداهمات، تتحصّن هي وأطفالها خلف زاوية بجوار الحمام، حيث يفصلهم جدار آخر عن الجزء الخارجي لشقتهم المكوّنة من غرفة واحدة. "مع كل مرة أسمع فيها صوت الجرافات الضخمة، أشعر بالارتعاش."
وبعد ساعات قليلة بدأت غارة أخرى. ثم سارت شاحنة بيضاء بلا نوافذ في أحد الطرق الرئيسية وسط المخيّم قبل أن تنطلق مسرعة في الإتجاه المعاكس عندما ساور القلق السكان. صاح الجميع: "قوات خاصة"، قوات خاصة إسرائيلية. واخترقت إطلاقات البنادق الهجومية الهواء، وحذر نشطاء على تطبيق المراسلة "تيلغرام" من خروج قافلة من مركبات الجيش الإسرائيلي من نقطة تفتيش قريبة باتجاه المخيّم، ما دفع الباعة إلى المسارعة بجمع واردات المبيعات واغلاق واجهات المحال التجارية.

حالة من الهرع
وغمرت السيارات الهاربة الطريق المؤدي بعيدا عن المخيم، بينما كان المسلحون الفلسطينيون الشباب يتدفقون في الاتجاه الآخر، باتجاه الدوار، وتجمعوا بعيدا عن أنظار المركبات العسكرية الإسرائيلية التي كانت تسد مدخل المستشفى الحكومي في الشارع.
تقدم أحد الرجال ورفع بندقيته وأطلق بضع رصاصات باتجاه الإسرائيليين. وانتظر آخر ومعه ما أسماه "الاشلاغا"، وهي علبة صغيرة محملة بمزيج من السكر والفحم ومواد أخرى لصنع جهاز حارق.
تراجع الحشد وركضوا عائدين إلى الشارع. ومن جهة أخرى، بدأ الناس يصرخون: "جيش! جيش!" مرت ثماني مركبات إسرائيلية مدرعة عبر الشارع، وأطلقت آخرها النار من جزئها الخلفي.
وبعد أسبوع، حدثت غارة اسرائيلية أخرى، وهذه المرة إستمرّت ستين ساعة، وأسفرت عن مقتل 12 فلسطينيا، وفقا للسلطات الصحية المحلية. وقامت القوات الاسرائيلية بمداهمة المنازل من منزل إلى منزل، وأسفرت المداهمات عن اعتقال المئات من الفلسطينيين.
وقال الطاقم الطبي الفلسطيني إن القوات حاصرت أيضا جميع مستشفيات جنين ومنعت سيارات الإسعاف من نقل الجرحى لتلقي العلاج.
ومع كل ذلك، تنفي إسرائيل أن تكون أفعالها في جنين تهدف إلى مضايقة الفلسطينيين أو جعل المخيّم غير صالح للعيش فيه. ويقول المسؤولون إنهم شنّوا العديد من الهجمات المحددة المراد بها تفكيك "البنية التحتية للمسلحين"، أو القبض على نشطاء متهمين بقتل إسرائيليين أو التخطيط لهجمات.
وأضاف الإسرائيليون بأن الغارات أسفرت عن مقتل العديد من قادة المسلحين الذين لجأوا إلى مخيّم جنين، ودمّرت مجموعات مثل كتيبة جنين، وهي مظلة للمقاتلين الفلسطينيين تموّلها جماعة الجهاد الإسلامي التي ينسبون دعمها من قبل إيران. ويقولون أيضا إن جنودهم استولوا على عبوات ناسفة وأسلحة أخرى، واكتشفوا ممرات تؤدي إلى أنفاق ومختبرات لتصنيع
المتفجرات.
ويقول مسؤولون إسرائيليون إن غارتين إسرائيليتين بطائرات بدون طيار خلال الآونة الأخيرة في جنين استهدفتا مسلحين كانوا يلقون متفجرات ويطلقون النار على قواتهم.
ويقول السكان إن الغارات الإسرائيلية تجاوزت بكثير ما هو مطلوب لمنع الأسلحة والمسلحين، واستهدفت الرموز والمؤسسات الثقافية والدينية في المدينة.

تدمير ممنهج
وحطمت الجرافات العسكرية الإسرائيلية الجداريات والمزارات التي تخلد ذكرى المقاومة الفلسطينية. وخلال الغارة التي استمرت ثلاثة أيام أواخر شهر كانون الأول الماضي، رسم الجنود الإسرائيليون نجمة داود أو شعارات مثل "تحيا إسرائيل" على الجدران ومزّقوا ملصقات الفلسطينيين الذين قتلوا في أعمال
العنف.
وأظهر مقطع فيديو متداول على نطاق واسع عبر مواقع التواصل الاجتماعي، جنديا اسرائيليا وهو يقرأ صلاة يهودية في مسجد المخيّم؛ وكتب على قبة المسجد عبارة للسخرية تقول: "جئنا نأكل الحمص". وزعم الجيش الإسرائيلي في وقت لاحق إنه أوقف الجنود الموجودين في مقطع المسجد عن الأنشطة العملياتية.
كما ضربت القوات الإسرائيلية موقع "مسرح الحرية" الذي أسِّس في العام 2006 وأصبح أحد رموزها الثقافية. ويقول أحمد الطوباسي، المدير الفني للمسرح، عبر مقابلة تلفزيونية حديثة: "كل شيء دمر ولا أعرف السبب. إنه مسرح، وليس قاعدة عسكرية، وليس منزلا إرهابيا."
وأضاف الطوباسي أنه كان من بين أكثر من مئة رجل اعتقلهم الإسرائيليون، حيث  تم القبض عليه أمام أطفاله، معصوب العينين، واقتيد إلى نقطة تفتيش قريبة، حيث قال إنه وآخرون تعرّضوا للضرب. وقالت عائلته إن مدير المسرح "مصطفى شتا" لا يزال رهن الاحتجاز، من دون أي معلومات عن مكان وجوده.
وكانت الفتاة ليان جلامنة البالغة من العمر 14 عاما، في غرفة النوم عندما بدأت إحدى المداهمات الإسرائيلية، مع والدتها سندي وإخوتها وكذلك أختها الصغيرة "أيلا" البالغة من العمر 11 شهرا. وعندما اخترقت الرصاصات النافذة والجدار، بدأ الأطفال بالصراخ وتجمّعوا في غرفة أخرى. فأخطأت رصاصة واحدة بصعوبة مكانا للاختباء داخل
الخزانة.
ليان، طالبة جيدة، تأمل بأن تصبح طبيبة في يوم من الأيام. لكن خلال الشهر الماضي، لم تتمكّن من الذهاب إلى المدرسة، حيث كان الآباء يخشون إرسال أطفالهم إلى الخارج.
قالت وهي تبكي "لقد ذهبت المدرسة... لقد رحل أصدقائي... يبدو الأمر وكأننا ليس لدينا
طفولة."
صحيفة لوس انجليس تايمز الاميركية