عالم الإنسان

آراء 2024/01/31
...

 د. أثير ناظم الجاسور


جورج طرابيشي في مقدمة كتاب الإنسان ذو البعد الواحد لهربرت ماركوز وضع مقارنة بين فانون الذي كتب معذبو الأرض وهو يصف انسان العالم الثالث، وبين هربرت ماركوز وهو يصف في كتابه هذا انسان العالم المتقدم وكيف يعيش الفكر بين الفكرتين محاولة من المُدققين اي عالم خلق الاخر أو اوجده، خصوصا أن  فانون تحدث عن ضرورة أن الثورة وحتميتها وعملية كسر الاغلال باتت من أولويات تلك المجتمعات، وماركوز الذي وجد أن التطور الحاصل في تلك المجتمعات استبعد فكرة الثورة لأنها قد تفقد الامتيازات، بالتالي يرى طرابيشي أن العمل في مساحة الفكرتين يُحيلنا إلى عالمين متمايزين متباينين  وقد يكونا متناحرين، وهذا ما عكسته تجارب تلك المراحل من التطور الفكري والصراع الايديولوجي الذي حول العالم إلى ساحة صراع وتنافس اداتها الإنسان.

في عالم اليوم مع اختلاف التوجهات والمنطلقات الفكرية التي استمدت كل مقوماتها من افكار وطروحات المفكرين والفلاسفة الذين اكدوا ضرورة أن يكون للانسان الدور العميق في التفكير الجمعي الذي يلعب الاخير دوراً في تشكيله، لطالما لعبت الدول على خلق أجواء للانسان الذي كان ولا يزال محور عملها نظرياً بالرغم من أن العمل يصب في تحقيق غايات قد يكون الإنسان هنا وهناك من المستفيدين، الا ان الإطار العملي للتفكير يوجه كل المحركات على أن تعتمد بالدرجة الأساس على حالة هذا الإنسان الذي يعيش وفق بيئات مختلفة تساعد القوى على تحقيق مبتغاها، فكل التجارب التي أدت إلى الحروب في العلاقات الدولية كان الإنسان محور العمل الدولي و ومسببا من الأسباب التي جعلت من القوى تكبر وتتمدد، والحروب والاحتلالات خير دليل على مكانة الإنسان النظرية في استراتيجية الدول التي من خلالها تبدأ عملية إعادة التقييم وترتيب أولوية التحركات.

مفاهيم تركبت على أساسها قطع بناء النظام الجديد الذي صاغته النظريات المشتقة من النظريات الام لتكون اللعبة في السياسة الدولية على العناصر المكونة لهذا النظام، بالضرورة كانت هذه المفاهيم مفاتيح أبواب النظام الجديد أو لنسمها الاستراتيجيات الجديدة للقوى المهيمنة بعيدا عن الاطر والمنطلقات الفلسفية التي تناولت الإنسان كمحرك للعمل والتفكير ومحور الشعور والعاطفة، في عالم اليوم الإنسان مركز التدخل والاستيلاء والتوسع المُراد تحقيقه سواء كانت تصب المفاهيم بمصلحته ام لا فهذا اخر ما تفكر به القوى المهيمنة وعناصرها الاقتصادية المهيمنة على قوته وطريقة حياته، انسان عالم اليوم هو الآلة التي من خلالها تتم عملية تحقيق الغاية فحقوق الإنسان والحريات والعدالة التي لابد من تلمسها الشعوب والديمقراطية الممارسة الاخلاقية هي الادوات التي بحاجة إلى آلة لتحقيقها، بالمحصلة كل هذه المفاهيم المستهدفة لذلك الإنسان هي بالضرورة مدججة بالسلاح كنوع مختلف من أساليب الحفاظ على حقوقه التي باتت الواجهة لعمليات التنافس والصراع بين الدول، إنسان الدولة الوطنية وانسان الهوية الفرعية وانسان الهامش وانسان الضرورة كلهم باتوا ذلك الإنسان العالمي الذي تتنافس على راحته نظريا كل قوى الهيمنة والنفوذ. 

خيارات العالم اليوم تجاه حال الشعوب والإنسانية باتت مُحددت بقياسات المصلحة ومخرجاتها التي تعلب الأنظمة السياسية على أساسها دور المنقذ تارة والمُحافظ تارة أخرى، على هذا العنصر أو ذلك، بالتالي صور الإنسان العالمي متعددة تدخل ضمن معادلات التوازن والفوضى التي تستند على مفاهيم الشرعية الدولية، بالنتيجة فانسان العالم الجديد عالم التطور والحداثة هو بالضرورة سجين الأحلام والاوهام يعيش ضمن عوالم مختلفة لتعود البيئات التي يعيشها هي الحاكم لكل ما له علاقة بقراراته ونمط العيش الذي من المؤكد تم رسمه على أساس معتقد أو نسق فكري أو ايديولوجيا تبلورت معالمها على انقاض مخياله، فقد العالم ملايين البشر في الحربين العالميتين والحروب التي اشتعلت في مناطق مختلفة لا سيما حروب القرن الواحد والعشرين ناهيك عن الكوارث الطبيعية والفقر الذي بات آفة تنخر بجسد الإنسان لا لشيء سوى أن هؤلاء الفقراء يعيشون في مناطق اقل اهمية من مدرك القوى الكبرى الاستراتيجي، حشود تنتظم لأجل القتال واخرى للاستعمار الاقتصادي والثقافي كلها شعارها يحمل هم ذلك الإنسان المعذب وواقعها قتل أحلامه تحت يافطات العدالة والاخلاق، فالعالم يتعامل مع الإنسان بفكرة الرواقيين على أن يكون منتمياً إلى اللامكان ويُحيلنا هذا الى ما يصفه تشيخوف بإنسان جدير بالشفقة.