عبد الأمير المجر
من البديهيات التي يعرفها الجميع، إن الذي يحمل الكثير من المال ويمرّ بالسوق، يكون اكثر استعدادا، نفسيا، للشراء من الذي لديه مالا أقل، والذي لايمتلك المال أو يحمل القليل منه يحاول ان يتجنب المرور بالسوق، خشية أن يجد ما يرغب بشرائه ولايستطيع، ولكي لا يخسر راحة البال!
كثرت في السنين الأخيرة (المعارك العشائرية)، لا سيما في وسط العراق وجنوبيه.. لا شك أن النزاعات العشائرية ليست جديدة، وتحصل هناك سابقا، وتقف وراءها أسباب تتصل، اما بالخلافات على الاراضي أو ما يتعلق بمنظومة القيم السائدة، وتتم بالأسلحة السائدة وقتذاك ايضا.. الأخطر في المعارك الحديثة هو انها باتت اكثر شراسة وبأسلحة ثقيلة نسبيا، لم تكن تستخدم سابقا خارج نطاق المؤسسة العسكرية، وأن المعارك العشائرية كانت تحصل في الريف حصرا، بينما الآن تحصل في مراكز المدن الصغيرة والكبيرة، والشيء الآخر الأكثر أهمية هو أن المعلن عن اسباب هذه المعارك لا يمثّل الحقيقية، وان الذين يقفون وراء اشعالها ويمدونها بالسلاح والعتاد وبسخاء، يبقون مجهولين!
لقد كتبنا عن هذه الظاهرة التي أساءت كثيرا لسمعة العراق وقدمته للعالم بلدا عشائريا، لاسيما اننا في زمن البث الفضائي الذي ينقل الصغيرة والكبيرة، وقلنا أيضا إن قوى الفساد السياسي، التي هيمنت وتغلغلت في مفاصل المجتمع، وصل عبثها إلى العشيرة التي هي الوحدة الاجتماعية، التي يتشكل من مجموعها الشعب، وتحمل كلّ منها ثقافة البيئة التي تعيش فيها، وإن تمزيق هذه الوحدات بالطريقة التي تحصل اليوم ينذر بما هو أخطر بعد أن استقطبت قوى الفساد بعضها، وصارت تجندها سياسيا من خلال رؤساء عشائر وشخصيات مؤثرة فيها، ليس فقط لأغراض انتخابية، وانما تجاوز ذلك لجعلها في بعض المناطق إحدى أوراق الضغط القوية، التي تمارسها ضد بعضها في خضم صراعها على السلطة وضد مؤسسات الدولة التي تتسابق للسيطرة عليها، وتحديدا المؤسسات الغنية كالنفطية وغيرها، اذ استثمر الفاسدون سعي الناس إلى التوظيف، ليكون مدخلهم للتأثير واحتواء العشائر ودفعها للصراع في ما بينها، وبذلك توزعت العشائر بين الأحزاب الفاسدة وصار الولاء للحزب الفلاني مدخلا لتحقيق مكاسب على حساب عشائر أخرى، وبالأدق أحزاب أخرى، لتجد العشائر نفسها وقد اصبحت بمثابة ميليشيات حزبية بأقنعة عشائرية، وقد حصل هذا في البصرة وغيرها من المدن النفطية، ولعلنا تابعنا كيف حوصرت بعض المنشآت أو الحقول النفطية وتم تهديد العاملين الأجانب فيها.. اذ لم تأبه تلك الاحزاب بسمعة البلاد وبوحدة النسيج المجتمعي، وما يخلفه هذا الصراع من مآس وانقسامات بين ابناء البلد الواحد والمنطقة الواحدة.
شيء جيد ومطلوب أن يتدخل الجيش والأجهزة الأمنية لفض تلك النزاعات، لكن يبقى من الضروري ان تكون التحقيقات أوسع وأعمق لمعرفة الجهات التي تقف وراء ما يحصل، ولكي يتم القضاء على هذه الظاهرة التي اساءت كثيرا للعراق واقلقت حياة الناس وأفقدت المدن روحها المدنيّة، التي كان يضبط ايقاعها احترام القوانين وخلو المدن من الأسلحة النارية أو قلّتها مع وجود حساب شديد لمن يستخدمها.. اليوم يبدأ النزاع ويحصل القتل والفوضى وينتهي الأمر بتسويات عشائرية ويبقى الفاعل الحقيقي مجهولا وبعيدا عن العدالة، ما يعني امكانية حصول ذلك مرة أخرى وأخرى.