{الرجولةُ والذكورةُ والفحولةُ} مثالاً

ثقافة 2024/02/13
...

  محمد صابر عبيد

تحيط بالرجل سلسلة من المصطلحات المتعددة في تعريفاتها ودلالاتها ومعانيها على مستوى اللغة والقيمة والثقافة والسلوك والممارسة والحضور، مثل مصطلحات الرجولة، والذكورة، والفحولة، وغيرها مما يدخل ويشتغل ويتداول في هذا المضمار على مستوى تشكيل المفاهيم وبناء المصطلحات، ولكل مصطلح من هذه المصطلحات مرجعيّته الثقافيّة والأيديولوجيّة وأسلوبه في بناء رمزية خاصة ضمن فضاء الاستخدام، على الرغم من أنّها تبدو في الشكل العام وكأنها تعني شيئاً واحداً بحيث يمكن أن تستخدم أحياناً بوصفها مترادفات، مع أن كل مصطلح منها يختلف عن الآخر تماماً داخل فضاء مفهوميّ عام مشترك؛ تتحرّك فيه هذه المصطلحات وتصوغ دلالاتها بما يتلاءم مع هويـها الاصطلاحيّة.
تسهم العلوم الإنسانيّة المختلفة مثل الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والأدب وغيرها في توجيه المفهوم والمصطلح وجهة معيّنة تستجيب لطبيعة الحقل المعرفيّ لكلّ علم منها، لذا تنشأ التباينات بين مصطلح وآخر تَبَعاً لضرورات التكوّن النظريّ والفاعلية الإجرائيّة في ميدان التطبيق والممارسة المعرفيّة، وهذا الموضوع الشائك نوعمّا يعود في نهاية الأمر إلى اجتهادات ووجهات نظر تكتسب بمرور الزمن شرعيّةً ما، ويتحوّل إلى واقع مفهوميّ واصطلاحيّ يحرّك الأفكار والأقلام ويضع بصمته على ما يقع تحت هذه الشبكة المفهوميّة والاصطلاحيّة من قضايا، في السبيل نحو توسيع دائرة المعرفة وتمتين طرق فاعليّتها على المستويات كافّة. يعدّ مصطلح “الرجولة” من أقدم هذه المصطلحات على مستوى الفعل الثقافيّ الميدانيّ، وهو مصطلح مشتقّ من لفظ “الرجل” بمعنى أنّ جذره الإسميّ “رجل”، وهذه الصيغة الصرفيّة “فُعولة” تحيل ألفاظها كلّها على “حالة مؤنّثة” حتّى المأخوذة من جذر “رجل” أو “ذكر” أو “فحل”، وفي ذلك مفارقة بين مرجعيّة الحالة ودلالة الملفوظ، وهو ما يصطلحون عليه “المؤنّث اللفظيّ” الذي يؤثّر في الاسم لفظاً دون المعنى، وغالباً ما يتفاعل هذا المصطلح مع مصطلح “الشجاعة” والمواقف النبيلة التي يثبّت فيها الرجل رجولته.
الذكورة، مقابلاً لمصطلح “الأنوثة” المشتق من جذر “أنثى”، يتحرّك داخل هذا الفضاء الجندريّ للتمييز بين المصطلحين المتضادّين، فاستخدام مصطلح الذكورة يأتي غالباً لتعزيز ما هو غير أنثويّ على المستويات المتداوَلة جميعاً، مثلما يعبّر استخدام مصطلح الأنوثة عن كلّ ما هو خارج فضاء الذكوريّة، وينتمي المصطلحان إلى شبكة من الصفات والخصائص والممارسات والسلوكيّات تميّز الذكوريّ عن الأنثويّ على الصعيدَين الثقافيّ والاجتماعيّ، حيث يتحقّق التوازن البشريّ المطلوب على النحو الطبيعيّ المتكامل.
 وحين يمتدّ الفضاء الذكوريّ نحو الفضاء الأنثويّ -على أيّ مستوى من مستوياته- سرعان ما يوصف هذا الامتداد بأنّه أنثويّ داخل الذكوريّة، والعكس صحيحٌ أيضاً، وهو ما يشكّل عيباً اجتماعياً يسعى كلّ منهما إلى أن يتبرّأ منه وينفيه عن فضائه، على الرغم من أنّ ذلك في عصرنا الحديث صار مألوفاً على نحو من الأنحاء، حيث يتشبّه الذكر بالأنثى وتتشبّه الأنثى بالذكر لأسباب كثيرة مختلفة؛ إلى درجة بلوغ مرحلة التحزّب للدفاع عن هذا السلوك في مجتمعات معيّنة.
الفحولة، مصطلح آخر يلحق “الرجل” دون “المرأة” وغالباً ما يحيل على دلالة إيروسيّة تتّصل بقدرة الرجل الجنسيّة، وهو ما حاول النقّاد العرب القدامى استثماره شعريّاً في وصف الشاعر الفحل والشعراء الفحول، لتوكيد الصفة العابرة للسائد والمألوف الشعريّ حين ينجح شاعرٌ ما في القفز إلى طبقة النجوميّة فيستحق في نظرهم هذا اللقب، ولا شكّ في أنّ استخدامه الشعريّ على هذا النحو يسلبه المعنى الإيروسيّ الصرف؛ مكتفياً بصفة القوّة الدائمة التي لا تضعف، ولنا في كتاب “طبقات فحول الشعراء” لابن سلّام مثالاً حيّاً على وصف الشعراء المميّزين عنده بالفحولة، ضمن معايير وشروط ومقاييس وضعها لوصف الشاعر المنتخَب بالفحولة، حتّى أنّ الشاعر محمد مهدي الجواهريّ نعته بعضهم بآخر الفحول بوصفه آخر أعمدة “قصيدة الوزن”، ومن ثم غاب المصطلح وهبط الشاعر العربيّ من منصّة الفحولة إلى سخونة الواقع؛ وصار إنساناً طبيعيّاً من لحم ودم ونجاح وفشل، وصارت القصيدة العربيّة الحديثة كياناً تشكيليّاً مؤنسناً يعبّر عن جوهر الشاعر الإنسانيّ والطبيعيّ؛ بلا فحولة طبقيّة مفتَعَلة تسيء إلى الشعر مثلما تسيء إلى الشاعر.
لو وضعنا المصطلحات الثلاث: الرجولة، الذكورة، الفحولة، على مسطرة واحدة وركّزنا التدقيق عليها بصرف النظر عن مرجعيّاتها الثقافيّة والمعرفيّة، لوجدنا أنّ المعنى الاجتماعيّ الكثيف في مصطلح “الرجولة” يعكس قدراً علياً من النُبل والشهامة الإنسانيّة، يتفوّق على ما يترشّح عن المصطلحَين الآخرَين “الذكورة” و”الفحولة” من دلالات ومعانٍ تحيل على هاجس التفوّق الجنسيّ، بحيث تجعل الرجل في مرتبة متفوّقة على الشريك الآخر “الأنثويّ”؛ لا بل يسطو عليه ليجعله تابعاً لا شريكاً، ولا نعرف إن كانت اللغات الحيّة الأخرى تحتوي مثل هذه المصطلحات، مع أنّنا من حيث المبدأ لا نتصوّر ذلك لأنّ طبيعة اللغة العربيّة هي طبيعة ذكوريّة؛ ساعدت الشعريّة العربيّة القديمة كثيراً في تكريسها وتمثّل رؤيتها وتمثيلها، وإن كانت قصيدة الحداثة في شكليها “قصيدة التفعيلة” و”قصيدة النثر” قد أجهضت هذه المصطلحات على المستوى الشعريّ وما يتّصل به من حيثيات، فإنّ فاعليتها على مستوى علم الاجتماع وعلم النفس على وجه التحديد ما زالت مشتغلة وحاضرة، في سياق معادلة إشكاليّة تتنازعها رؤيتان
متناقضتان.