الولايات المتحدة لم تعد أعظم قوَّة في الشرق الأوسط

بانوراما 2024/02/13
...

 سايمون تيسدال
 ترجمة: أنيس الصفار      

تؤشر الضربات الجوية الأولى التي قادتها الولايات المتحدة الأميركية على المسلحين الحوثيين الذين يسيطرون على الجزء الشمالي الغربي من اليمن علامة شاخصة أخرى مثيرة للقلق على امتداد سلسلة الاخفاقات السياسية الغربية الطويلة في الشرق الأوسط، التي يبقى أبرزها أهمية ومحورية هو الفشل في حل مشكلة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني المستمر منذ عقود.  

إن اضطرار الولايات المتحدة الأميركية، ومعها بريطانيا، لاستخدام القوة للرد على مهاجمة المسلحين الحوثيين للسفن في البحر الأحمر يعكس واقعاً عسير التصور، وهو أن سطوة واشنطن السياسية أخذت بالتضاؤل، ودبلوماسيتها فقدت فعاليتها، وسلطتها أمست موضع ازدراء. أما الحوثيون فلم يهتز لهم جنان، بل إنهم تعهدوا بمواصلة الهجمات ضد السفن العابرة لمضيق باب المندب المتجهة نحو إسرائيل.
أبرز هذا التصعيد المشحون بالعواقب والمفتوح النهايات حقيقة أخرى قد لا يتقبلها كثيرون، وهي أن القوة المهيمنة في الشرق الأوسط لم تعد الولايات المتحدة أو مصر المصطفة مع الغرب أو المملكة العربية السعودية او حتى إسرائيل، وإنما هي إيران التي توصف بأنها الحليف الأول للحوثيين.
يسهل الحديث عن المنتصرين والخاسرين في المجزرة الرهيبة الدائرة داخل غزّة، التي يقول عنها الحوثيون إنها كانت الدافع وراء شن حملتهم، لكن على المستوى الستراتيجي يتجلى بوضوح من هو الطرف الذي سيخرج من الازمة متقدماً متفوقاً على غيره.
فعن طريق خوض المعركة بالوكالة والحلفاء تتعزز مكانة إيران مع كل اصابة بين الفلسطينيين وكل صاروخ يطلقه حزب الله او عملية قصف تنفذها جماعات الفصائل العراقية والسورية وكل طائرة مسيرة حوثية تنطلق نحو  إسرائيل.
أثار الرئيس الأميركي "جو بايدن" التطير في العالم (وبين كثير من الأميركيين ايضاً) حينما سارع بإعطاء تعهد بتقديم دعم غير مشروط لإسرائيل عقب هجوم حركة حماس على المناطق بمحيط غزّة في السابع من تشرين الأول 2023، واستخدامه حق النقض (الفيتو) ضد خطط الأمم المتحدة لوقف اطلاق النار بين الجانبين.
بدت سياسات الرئيس بايدن في الشرق الأوسط مثل شيء عفا عليه الزمن منقطع الصلة بما يدور حوله.
فلم تكن الولايات المتحدة يوماً تحظى بالشعبية في العالم العربي، بل إنها غصة تجرع على مضض وشرٌ لا بد منه. بيد أن الأمر تغير حاليا، فإيران غير العربية هي التي تجلس في مقعد القيادة اليوم.
أما إسرائيل فقد أفاقت هي الأخرى في يوم 7 تشرين الأول 2023 على دقات ناقوس خطر ستراتيجي، مع أن سياسييها الأكثر تطرفاً لم يعوا الأمر بعد.
فمشاهد الفظائع التي ترتكب في غزّة قد غيرت نحو الأسوأ، وإلى الأبد، الكيفية التي كان ينظر بها إلى إسرائيل، وتكفي شاهداً على ذلك الاتهامات غير المسبوقة التي وجهت إليها عبر محكمة العدل الدولية في لاهاي بارتكاب أعمال إبادة جماعية.
ففي حديث مع موقع "بي بي سي" خلال الأسابيع القليلة الماضية قال السفير السعودي في لندن خالد بن بندر إن الدولة اليهودية ينبغي ألا تعامل بعد الآن بوصفها حالة خاصة.

عناصر السياسة الإيرانية
هذه كلها مغانم فاز بها نظام الحكم النشط في إيران، حيث تتبنى في سياستها الخارجية ثلاثة أهداف مبدأية هي: إخراج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط والحفاظ على التفوق إقليمياً وتعزيز التحالفات الرئيسة مع كل من الصين وروسيا.
أما تدمير إسرائيل، سواء كان هدفاً جدياً ام شعاراً خطابياً، فإنه يأتي رابعاً.
تعمل شبكة الحركات المسلحة المتحالفة مع إيران، التي يطلق عليها إسم "محور المقاومة، بالتواصل عن بعد وتبقى الآراء متضاربة مثلاً حول ما اذا كان المسلحون الحوثيون، الذين يتلقون التدريب والسلاح من طهران، خاضعين أيضاً لإملاءاتها وإرادتها.
غير إن بعض المحللين يعتقدون أن إيران لا تمتلك سيطرة مباشرة على حلفائها اليمنيين، أو على حزب الله في لبنان الذي يؤكد بإصرار أنه مستقل عنها من الناحية
العملياتية.
وعلى الرغم من كل ذلك، ولدى أخذ الأمر ضمن اطار الارتباط مع حركة حماس في غزّة والفصائل الفلسطينية الأخرى في الضفة الغربية والجماعات المسلحة التي تتمركز قواعدها في العراق وسوريا، يصبح واضحاً أن إيران قد نجحت في تجميع وحشد تحالف مترابط من الراغبين في اخراج الولايات المتحدة، وأنها قادرة على التحكم به عن بعد.
ومن جهة اخرى، فإن القصف الغربي لقواعد الحوثيين بدلاً من الضغط لفرض وقف لإطلاق النار لإنهاء الحرب الأهلية المستمرة في اليمن منذ أمد غير قليل، لن يغير هذا الواقع.
بل إنه من المرجح أن يؤدي إلى اذكاء خطاب طهران، المعادي للغرب وإسرائيل، من خلال إشهارها المقاومة في طول المنطقة وعرضها.
في العام الماضي اتخذت إيران، التي اكتسبت مزيداً من الحنكة والفطنة، خطوات عملية لإصلاح ذات البين مع خصومها من عرب الخليج، فأعادت العلاقات الدبلوماسية مع المملكة العربية السعودية، رغم أن ذلك لا يعني عودة الود المفقود بين الرياض وطهران.
وقد كان أبرز ما في تلك الصفقة هو توسط الصين في عودة تلك العلاقات.
الصين وروسيا هما اليوم أفضل أصدقاء إيران الجدد، ولعل هذا أكثر من أي عامل آخر هو الذي غير دوران دولاب الحظ لصالح إيران وجعل منها قوة يحسب لها حساب.
أما العوامل التي حفزت على حدوث هذا التحول فقد كانت غزو أوكرانيا وحلف التعاون "بلا حدود" الصيني الروسي السابق.
هذه الحرب وتداعياتها بلورت الاعتقاد الذي كان آخذاً بالتكون لدى بكين وموسكو، ومفاده أن زعامة الولايات المتحدة للعالم في عهد ما بعد "دونالد ترامب" قد دخلت طور التقهقر، وأن النظام العالمي القائم على قواعد تشرف عليها واشنطن قد بات آيلاً للانهيار والاستبدال.

تغيرات المسرح الدوليّ
منذ صعود الزعيم الصيني "شي جنبنغ" إلى السلطة قبل أكثر من عشر سنوات أنشأت الصين لنفسها فضاءات نفوذ جيوسياسي واقتصادي تمكنها من منافسة الولايات المتحدة، أو الحلول محلها متى ما أمكن. وقد كان لإيران موقع مركزي في مخططات الزعيم الصيني تلك.
وفي العام 2021 وقع البلدان اتفاقية ستراتيجية للاستثمار والطاقة أمدها 25 عاماً، وبرعاية من الصين انضمت إيران إلى مجموعة "بريكس" ومنظمة شانغهاي للتعاون.
بالتواطؤ مع بكين للالتفاف على العقوبات المفروضة تبيع إيران الصين ملايين البراميل من النفط الخام شهرياً باسعار مخفضة، ويتولى نقل هذه الشحنات "اسطول مستتر" من الناقلات. وها هو اقتصاد إيران يتحرك نحو الانتعاش بعد سنوات من الركود والاضطرابات السياسية والاجتماعية الداخلية العنيفة. في شهر شباط من العام الماضي أخبر " شي جنبنغ " الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي أن الصين تساند معركة الايرانيين في التصدي للتفرد والتجبر الأميركي.
أما بالنسبة لروسيا فإن الأمر كله يتعلق بالسلاح، إذ إن إيران تمد موسكو بالطائرات المسيرة المسلحة التي تستخدمها في أوكرانيا. وهناك تقارير استخبارية أميركية مفادها أن مجموعة فاغنر الروسية تخطط لتزويد حزب الله بنظام دفاع جوي متوسط المدى، وهو استفزاز صاعق اذا ما صدق الخبر.
وبالمقابل فإن إيران بدورها قد تتلقى قريباً دفعة من طائرات سوخوي "سو- 35" الروسية القاذفة المقاتلة المتقدمة إلى جانب مروحيات هجومية، كثمرة لشراكة دفاعية غير مسبوقة بين الدولتين المتجاورتين.
كما إن صادرات روسيا إلى إيران تزدهر هي الأخرى، حيث تعهدت موسكو بمبلغ 40 مليار دولار لتطوير حقول الغاز الطبيعي لديها.
على رأس هذا كله تتناهى تقارير مفادها أن برنامج التخصيب الإيراني المحظور، المرتبط بالتسلح النووي، مستمر بالتقدم سريعاً، وهي نتيجة أخرى تعزى إلى انسحاب الولايات المتحدة  الأميركية خلال عهد دونالد ترامب من اتفاقية حظر الانتشار الموقعة في العام 2015 والتي تمت برعاية الأمم المتحدة.
وكان أمل بايدن هو أن يتمكن من احياء هذه الاتفاقية، لكنه أصابه اليأس في نهاية الأمر وتخلى.
أما روسيا والصين فلم تعودا متنحيتين جانباً، بل وإن أسوأ كوابيس إسرائيل، أي القنبلة الإيرانية، قد يكون أقرب إلى التحقق اليوم مما كان في أي وقت
مضى.
يقول المحللان "رويل مارك غيرشت" و"راي تاقيه": "المزاج اليوم في نظام الجمهورية الاسلامية هو الاحساس بنشوة الظفر. فالبلد قد تمكن من تجاوز العقوبات وحركات الاحتجاج الداخلي، كما استطاع بمساعدة حلفاء له من القوى العظمى أن يوطد وضعه الاقتصادي ويبدأ بتجديد واحياء دفاعاته. وحتى القنبلة النووية اليوم باتت على بعد ذراع."
بعد 45 عاماً من المحاولات نجحت إيران أخيراً بأن تصبح فتى المنطقة المهاب. فلا العقوبات ولا العزل ولا التهديدات تمكنت من تقويض سياسة طهران، واليوم تواجه الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل خصماً لا يستهان به يمثل أحد أضلاع مثلث تحالف عالمي تدعمه جماعات مسلحة قوية وطاقات اقتصادية ضخمة.
المطلوب على وجه السرعة الآن هو التوصل إلى نهج دبلوماسي جديد اذا ما أريد تجنب صراع أوسع مدى.

عن صحيفة {الأوبزيرفر} البريطانية