رنا صباح خليل
إن قراءة أولية للقصص الثلاث التي تضمها المجموعة القصصية (أجمل النساء الناجيات من الحب) للكاتبة الأميركية كيت شوبان وترجمة د. عبد الناصر يوسف وإيمان الحمادي وصباح ديبي، تكشف عن أهم المهيمنات التي تحكم الأقاصيص الثلاث للمجموعة وهي تتحدد بزاوية النظر المعلومة لدينا كقراء في أن الراوي امرأة وتتحدث عن مشاعر امرأة أيضاً ولكن ذلك يتم على وفق ثلاث حالات تقف فيها ضمن زاوية نظر ثابتة محققة ما يسميه جورج إيلان بالرؤية المصاحبة، فنرى الأحداث من خلال عينيها وأفكارها وميولها، فيؤدي ذلك إلى تميز العمل بالتبئير الداخلي الثابت (بحسب جينيت)(1) حيث يمر كل شيء من خلال بطل واحد ولما كانت المهيمنة - بحسب جاكبسون(2)- هي العنصر البؤري في الأثر الأدبي وأنها تحكم وتحدد وتغير العناصر الأخرى وتضمن التلاحم الأولي للبنية السردية فقد جاءت بأسلوب قصصي استدعت فيه سارداً غائباً غير مشارك في القصة ليتحدث بضمير الغائب بطريقة من يعرف أكثر من الشخصية المركزية في القصص الثلاث وقد جاء هذا الأسلوب مصاحباً لغايات محددة لدى القاصة، ففي قصة (أحداث حياة في ساعة) كانت تضعنا القاصة أمام أنوثة مخنوقة وخائفة، أنوثة كانت تناضل في قاعها النفسي من أجل استعادة حقها في الوجود والسعادة، أنوثة تريد أن تكون “هي” لا أن تكون ما يراد لها أن تكون بعد أن عاشت السيدة مالارد مع زوج لا تحبه حيناً وتحبه بشكل ضئيل حيناً آخر ، بمعنى أن هناك تناقضاً داخلياً كانت تصارعه وقد ظهر شاخصاً أمامها بعد سماعها خبر وفاته لتكون ردة فعلها غريبة وهي تنظر من النافذة إلى قمم الأشجار المتمايلة، التي كانت مفعمة بالحياة إيذاناً بأن الربيع قادم شاعرة أنها أصبحت حرة الجسد وحرة الروح، وبما أن الأمر متعلق بالمرأة وحدها فالقاصة قادرة على بلورة ذلك التناقض مع الذات وحسمه بعد أن جعلت مالارد تكتسب حريتها بطريقة قدرية لا بسعي منها الأمر الذي ألزم عملية القص أن تترك نتائج ذلك الاكتساب للقدر أيضاً، فقد كانت مالارد تعاني من مشكلات قلبية أودت بحياتها لعدم استطاعتها تحمل كم هائل من الفرح لم تكن تتوقعه وبذلك كان مصير التفتح الإنساني المخنوق مشروطاً بفعل غيبي لتلك المرأة ليثبت لها أن الأنوثة هي التعاسة في حال عدم السعي لإظهارها واكتساب حقوقها، والسؤال المطروح هنا هل كان غياب الأنوثة يخفي ديمومة للحياة ليحمل ظهورها أذناً بأفولها؟ وهل كانت هذه الرؤية تعبيراً عن وجهة نظر المؤلفة، أم هي صورة للعلاقة بين طريقة التفكير التي يطرحها النص ومتغيرات التعبير عن الواقع الذي لا يكافئ الفرص بصورة قدرية، أنا أرى أن نصوص القصص الثلاث كانت تقوم على التقابل بين منحنيين متضادين منحنى ضبابي يحمل أقاصي رغبات الإنسان المخفية ومنحنى مشمس يتبناه الواقع بعد أن يعمل على نكء تلك الرغبات بوخزة من حدث مفاجئ، وهذا ما نجده في القصتين الأخيرتين أيضاً، ففي القصة الثانية التي هي بعنوان(امرأة محترمة) نتلمس منحنى غير واضح الملامح يكتنف السيدة بارودا وهي ترفض استقبال صديق زوجها ليقضي أسبوعاً في بيتهما في المزرعة التي يسكناها، إذ كانت تتمنى شيئاً من الراحة والمسامرة بعض الوقت مع زوجها والمنحنى هنا يقابله منحنى آخر يحمل طرحاً بالغ الوضوح كانت تحاول إطفاء جذوته وهو يتمثل في إعجابها بصديق زوجها وحبها له في الخفاء، وهذا المنحنى الثاني حرصت على أن لا تعلن عنه جهاراً وتركت للقارئ اكتشافه بعد أن تترك بيتها لحين مغادرة الصديق له لتحضر بعد ذلك وهي حاسمة لأمرها بأن تواجه ضعفها وتحوله إلى قوة في مواجهة للنفس تفرض عليها استدعاء ذلك الصديق مرة أخرى للمزرعة وهي تحمل له نظرة مغايرة، وهذه القصة الوحيدة التي نجدها حققت فيها القاصة نجاة من الحب بشكل حقيقي وذلك لو أننا أخذنا موضوعة الحب على أنها منقصة للذات أو مرضاً علينا النجاة منه كما في عنوان المجموعة القصصية الدال على ذلك، والحقيقة أن تجربة الحب في هذه القصة هي تجربة من جانب واحد، تجربة الأنثى التي تحب، لا تجربة الحب بين الأنثى والرجل وإن جاز التعبير فهي تجربة عظيمة الوقع على الشخصية المحورية أي على السيدة بارودا؛ ذلك أنها لم تخرج فيها من ذاتها وإن خيل إليها أنها أخذت إلى خزانة قراراتها شيئاً جديداً مختلفاً كان ديدنه السيطرة على الشعور وتحويله إلى منفذ للحياة والوجود، فالقاصة حرصت على تغييب نظرة الآخر ومحدوديته وجزئيته على مدار القص، أما في القصة الثالثة التي تحمل عنوان(ندم) فقد وظفت القاصة منحني القص اللذين أشرنا لهما لتشخيص حالة الشعور بالوحدة لامرأة تدعى مامزيل أوريلي ليحمل الأول منهما خيارها في أن تكون إنسانة قوية من دون الحاجة لرجل فترفض الزواج أو الوقوع في قصة حب، فينتفض المنحنى الثاني وهو الحامل للحدث المفاجئ ناكئاً قرارها ذلك وممعناً بتطويقها بإحساس الوحدة المفضي ضمناً إلى الندم وهو عنوان القصة، وقد تضمن ذلك الحدث حضور جارتها إليها طالبة منها أن تضع أولادها عندها وفي ضيافتها لبضعة أيام لظرف استوجب ذلك، فتبدأ المعاناة مع تلبية احتياجات الأطفال وتنتهي المعاناة بتحولها إلى متعة مفتقدة تتضح ويتقد أوارها بعد رحيلهم عنها وخلو بيتها منهم، وفي هذه القصة حرصت القاصة على تشكيل ستراتيجية نسوية لامرأة مستقلة على وفق أسس رافضة لهيمنة الرجل بشكلها الصريح فقد ركزت على تفعيل دور الأمومة في مخاطبتها لنوازع المرأة وهو يخفي ضمناً احتياجها للجنس الآخر، ومن الملاحظ في هذا القص الذي نتحدث عنه أنه يقوم على تفكيك تركيبة الأنثى بعدة أشكال ثم يقوم ببنائها باستثمار التعارض بين دفتي متلازمة القص في القصص الثلاث من حيث قيام أحدهما بفعل سلبي يهمِّش الوجود الأنثوي وآخر فعل إيجابي يحرك الساكن والراكد في الأحاسيس والحاجات لكل امرأة، وتلازم خطي دفتي القص في حبل السرد المجدول ما لا يحول دون امتلاك خط سير يحمل إيقاعه الخاص والمتكسِّر الخارج للمتن القصصي بتفعيل الحركة الأحادية للشخصية ولعل هذا يحيل إلى أن الماضي المنصرم لا يمكن استعادته بانتظام وهو يخاطب الذات بل على وفق تداعيات الشخصية وتحولات الوقائع المؤثرة في القص، بينما الحاضر يمكن التحكم بقصه وتشخيص تأثيراته في الشخصية وهو ما يجعل السرد طرياً مواكباً لمسار الحدث بكل جزئياته .
الهوامش:
1 ـ ينظر: جينيت جيرار، نظرية السرد من وجهة نظر التبئير، ترجمة: ناجي مصطفى، منشورات الحوار الأكاديمي والجامعي، ط1، 1989.
2 ـ ينظر: رومان جاكبسون، القيمة المهيمنة، نظرية المنهج الشكلي، ترجمة: إبراهيم الخطيب، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، لبنان،ط1 1982، ص81 .